Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 71, Ayat: 15-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقاً } أي : متطابقة بعضها فوق بعض ، والرؤية هنا علمية إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة ، وعُلِّقت بالاستفهام ، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق ، أو كانوا منجّمين ، { وجعلَ القمرَ فيهن نوراً } أي : يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل ، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا لأنَّ بين السموات ملابسة ، من حيث إنها طباق ، فجاز أن يقال : فيهن ، وإن لم يكن في جميعهن ، كما يُقال : في المدينة كذا ، وهو في بعض جوانبها . وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات ، وظهورهما مما يلي الأرض . فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات لأنها لطيفة لاتحجب نوره . { وجعل الشمسَ سِراجاً } مصباحاً يزيل ظلمة الليل ، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض ، ويُشاهدون الآفاق ، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره ، وليس القمر بهذه المثابة ، إنما هو نور في الجملة ، فنور الشمس أقوى ، ومنه يستمد نور القمر ، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة . { واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً } أي : أنشأكم منها ، فاستغير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض . و " نباتاً " إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم ، بحذف الزوائد ، ويسمى اسم مصدر ، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله : التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها ، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات ، فقرَن أحدهما بالآخر ، ونحوه قوله تعالى : { أّنِ ٱضْرِب بِعَصَاكَ ٱلْحَجَرَ فَٱنْبَجَسَتْ } [ الأعراف : 160 ] أي : فضرب فانبجست ، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء ، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة ، أو : لفعل مترتب عليه ، أي : أَنبتكم فنبتم نباتاً ، { ثُم يُعيدكم فيها } بعد الموت { ويُخرجكم } يوم القيامة بالبعث والحشر { إِخراجاً } محققاً لا ريب فيه ، ولذا أكّده بالمصدر . { واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً } تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم . قال ابن عطية : وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية ، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع ، إلاّ أن يترتب على القول بالكرويّة قول فاسدٌ ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله ، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور ، قال : لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها . هـ . المحشيّ الفاسي : وهو بعيد لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه اي : في البحر لا العكس ، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر ، كما عُلم من الشرع . هـ . قلت : وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر . والله تعالى أعلم . وتوسيط لكم بين الجعل ومفعوليه ، مع أنَّ حقه التأخير ، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم ، وللتشويق إلى المؤخّر ، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة ، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن ، أي : بسطها لكم في مرأى العين { لتسلكوا منها سُبلاً فِجاجاً } أي : طُرقاً واسعة ، جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، وقيل : هو المسلك بين الجبلين ، و " منها " متعلق بـ " تسلُكوا " لِما فيه من معنى الاتخاذ ، أو : بمضمر هو حال من " سُبلاً " أي : كائنة منها ، ولو تأخر لكان صفة لهما . الإشارة : تقدّم تفسير سبع سموات الأرواح ، والقمر قمر التوحيد البرهاني ، والشمس : شمس المعرفة ، والله أنبت بشريتكم من الأرض نباتاً ، ثم يُعيدكم فيها بالبقاء بعد الفناء لتقوموا برسم العبودية ، ثم يُخرجكم منها إلى صعود عرش الحضرة ، والله جعل لكم أرض العبودية بِساطاً لتسلكوا منها إلى الله في طرق واسعة ، قررها أئمة الطريق من الكتاب والسنّة وإلهام العارفين ومواجيد العاشقين . وبالله التوفيق . ولمَّا أَيِس من إيمانهم شكى إلى ربه ، ثم دعا عليهم ، كما قال تعالى : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } .