Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 73, Ayat: 11-19)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وَذَرْنِي والمكذِّبينَ } أي : دعني وإيّاهم وكِلْ أمرَهم إليّ ، فإني أكفيكهم ، والمراد رؤساء قريش ، و " المكذِّبين " : مفعول معه ، أو : عطف على الياء . { أُولِي النَّعْمَةِ } أي : أرباب التنعُّم وهم صناديد الكفرة ، فالنَّعمة بالفتح : التنعُّم ، وبالكسر : ما يتنعّم به ، وبالضم : المسرة . { ومَهِّلْهُمْ قليلاً } أي : إمهالاً قليلاً ، أو زمناً قليلاً إلى يوم بدر ، أو يوم القيامة . { إنَّ لَدَيْنا } للكافرين يوم القيامة ، { أنكالاً } قيوداً ثِقالاً ، جمع نِكْل ، { وجَحيماً } ناراً محرقة { وطعاماً ذا غُصَّةٍ } الذي ينشب في الحلوق فلا يُساغ ، يعني : الضريع والزقوم . { وعذاباً أليماً } مؤلماً يخلص وجعه إلى القلب . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ الآية فصعق ، وعن الحسن : أنه أمْسى صائماً ، فأُتي بطعام ، فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعه ، ووُضع عنده الليلة الثانية فعرضت له ، فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة ، فأخبر ثابت البناني وغيره ، فجاؤوا ، فلم يزالوا به ، حتّى شرب شربةً من سَّوِيق . وهذا العذاب واقع { يَوْمَ ترجُف الأرضُ والجبالُ } أي : تتحرّك حركةً شديدة مع صلابتها وارتفاعها ، فالظرف منصوب بما في " لدينا " من معنى الفعل ، أي : استقر للكفار كذا وكذا يوم ترجف … الخ . { وكانت الجبالُ كَثِيباً } رملاً مجتمعاً . من : كثب الشيء إذ جمعه ، كأنه فعيل بمعنى مفعول . { مَّهِيلاً } سائلاً بعد اجتماعه . { إنَّا أرسلنا إِليكم } يا أهل مكة { رسولاً } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { شاهداً عليكم } يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان ، { كما أرسلنا إِلى فرعون رسولاً } وهو موسى عليه السلام ، { فعصى فرعونُ الرسولَ } الذي أرسلنا إليه ، أي : عصى ذلك الرسول لأنَّ النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى . ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه ، كما يُعرب عنه قوله تعالى : { شاهداً } إرسالاً كائناً كإرسال موسى لفرعون ، فعصاه ، { فأخذناه أخذاً وَبيلاً } شديداً غليظاً . وإنما خص موسى وفرعون لأنَّ خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود . { فكيف تتقون إِن كفرتم } أي : بقيتم على كفركم { يوماً } أي : عذاب يوم { يجعلُ الوِلْدان } من شدة هوله ، وفظاعة ما فيه من الدواهي { شِيباً } جمع أشيب ، أي : شيوخاً ، إمّا حقيقة ، أو تمثيلاً ، وذلك أنَّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب ، فإذا قلنا : هو من باب التمثيل ، يكون كقولهم في اليوم الشديد : يوم تشيب فيه نواصي الأطفال ، وإذا قلنا حقيقة فلعله ممن بلغ الحلم ، وصَحِبه تفريط ، وهذا الوقت الذي يُشيب الولدان هو حين يُقال لآدم عليه السلام : " أخْرِج بعثَ النار من ذريتك … " الحديث ، فـ " يوماً " مفعول بكفرتم ، أي : جحدتم ، أو : بـ " تتقون " ، أي : كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم بالله ، أو : ظرف ، أي : فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ، و " يجعل " صفة ليوم ، والعائد محذوف ، أي : فيه . { السماءُ مُنفَطِر به } أي : السماء على عِظمها وإحكامها منفطر به ، أي : متشققة مِن هوله ، فما ظنك بغيرها من الخلائق ؟ والتذكير لتأويل السماء بالسقف ، أو : لإجرائه على موصوف مذكّر ، أي : شيء منفطر ، وعبّر عنها بذلك للتنبيه على أنها تبدّلت ، حقيقتها ، وزال عنها اسمها ورَسمها ، ولم يبقَ منها إلا ما يُعبر عنه بشيء . والباء في " به " للآله ، يعني : أنها تتفطّر لشِدّة ذلك اليوم وهوله ، كما ينفطر الشيء بما يفطر به . { كان وعدُه } بالبعث { مفعولا } لا شك فيه ، فالضمير لله عزّ وجل ، والمصدر مضاف إلى فاعله أول إلى مفعوله ، وهو اليوم ، والفاعل هو الله عزّ وجل . { إِنَّ هذه تذكرةٌ } أي : إنَّ هذه الآيات المنطوية على القوارع المذكورة موعظة ، { فمَن شاء اتَّخَذِ إِلى ربه سبيلا } أي : فَمن شاء اتعظ بها ، واتخذ طريقاً إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة ، فإنه المنهاج الموصَّل إلى مرضاته . الإشارة : قال القشيري : فذرني والمكذّبين ، القائلين بكثرة الوجود وتعدده . هـ . أي : مع أنه متحد ، كما قال الشاعر : @ هَـذّا الـوُجـودُ وإن تَعَـدَّدَ ظَاهِــراً وحَيَاتكُــم مـا فِيــه إلا أَنْتُــمُ @@ أُولي النِّعمة : الترفُّه ، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم ، وأشركوا مع الله غيره ، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي : زمن عمرهم لأنه قليل وإن طالت مدته إذ لا فائدة فيه . إنَّ لدينا أنكالاً ، أي : قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد ، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة لضيق مسلكه بوجود العوائق ، وعذاباً أليماً : البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا . يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله ، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات ، فيصير هباءً منثوراً . { إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم } ، وهو الداعي إلى هذه الأسرار التفريدية ، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله ، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه ، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم فأخذناه أخذاً وبيلاً ، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور ، فكيف تتقون الله حق تقاته ، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار ؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان . السماءُ منفطر مِن هوله ، حين يُحال بين المرء وعملِه ، إذ ليس محلّ العمل ، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل ، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون ، إنَّ هذه تذكرة بالغة ، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم ، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت . وبالله التوفيق . ولمّا أمر نبيه بقيام الليل خفّف عنه فيه ، فقال : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ } .