Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 1-10)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها المزَّمِّلُ } أي : المتزمّل ، وهو الذي تزمّل في ثيابه ، أي : التفّ بها ، بإدغام التاء في الزاي . قال السهيلي : المزمّل : اسم مشتق من الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم حين الخطاب ، وكذلك المُدَّثِر . وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفةَ المخاطَب ، وتَرْكَ عتابه ، سَمَّوه باسم مشتق من حالته ، كقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة : " قم أبا تراب " إشعاراً له أنه غير عاتب عليه ، وملاطفةَ له . والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمّل ، راقد ليله ، لينتبه إلى قيام الليل وذكرِ الله فيه لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطَب ، وكل مَن عمل بذلك العمل ، واتصف بتلك الصفة . هـ . وكان صلى الله عليه وسلم ذات ليلة متزمِّلاً في ثيابه نائماً ، فنزل جبريل يأمره بقيام الليل بقوله : { قَمْ الليلَ } أي : قُم للصلاة بالليل ، فـ " الليل " نصب على الظرفية ، و { إلاَّ قليلاً } : استثناء من الليل ، و { نِصْفَه } : بدل من " الليل " الباقي بعد الثنيا ، بدل الكل ، أي : قُم نصفه ، أو : مِن " قليلاً " ، والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزاء المقارن للقيام ، والإيذان بفضله ، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب . { أو انقُصْ منه } من النصف نقصاً { قليلاً } إلى الثلث ، { أو زِدْ عليه } ، على النصف إلى الثلثين ، فالمعنى : تخييره صلى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصفَه أو أقلّ منه أو أكثر . وقيل : " نصفه " بدل من " الليل " ، و " إلاّ قليلاً " مستثنى من النصف ، فالضمير في " منه " و " عليه " للنصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين ، بين أن يقوم أقل من نصف على البت ، وبين أن يختار أحد الأمرين ، وهما النقصان من النصف ، والزيادة عليه ، والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول . أنظر أبا السعود . والجمهور : أن الأمر هنا للندب ، وقيل : كان فرضاً وقت نزول الآية ، وقيل : كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وبقي كذلك حتى تُوفي . { وَرَتِّلِ القرآن } في أثناء قيامك بالليل ، أي : اقرأه على تُؤدة وتبيين حروفٍ ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكن السامع مِن عَدٍّها ، من قولهم : ثغر رَتَل : إذا كان مفلّجاّ . وترتيلُ القرأن واجب ، فمَن لم يرتِّله فهو آثم إذا أخلَّ بشيء من أداء التجويد ، كترك الإشباع أو غيره . والمقصود من الترتيل : تدبُّر المعاني ، وإجالة الفكر في أسرار القرآن . قال في الإحياء : واعلم أنّ الترتيل أشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال ، والمقصود من القرآن : التفكُّر ، والترتيلُ مُعين عليه . وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله . { إِنَّا سنُلْقِي } أي : سنُنزل { عليك قولاً ثقيلاً } وهو القرآن العظيم ، المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلّفين ، أو : ثقيلاً على المنافقين ، أو : ثقيلاً لرزانة لفظه ، ومتانة معناه ، أو : ثقيلاً على المتأمِّل لافتقاره إلى مزيد تأمُّل وتفرُّغ للسر ، وتجريدٍ للنظر ، أو ثقيلاً في الميزان ، أو ثقيلاً تلقيه من جبريل ، فقد كان عليه السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ ، فَيَفْصِم عنه ، وإنّ جبينه لَيتَفَصَّدُ عَرَقاً . { إِن ناشئةَ الليلِ } أي : قيام الليل ، مصدر من " نشأ " إذا قام ونهض ، على وزن فاعلة ، كالعافية العاقبة ، أو : إنَّ النفس التي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة ، أي : تنهض ، أو : إن العبادة التي تنشأ بالليل ، أي : تحدث ، أو : ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة ، وكان زين العابدين يُصلّي بين العشاءين ويقول : هذه ناشئة الليل . قلت : وهذا وقت كان السلف يحرصون على عمارته بأنواع العبادات لأنه يمحوا ظلمة النهار التي تُكتسب من شغل الدنيا . { هي أشَدُّ وَطْأً } أي : موافقة للقلب . وقرأ البصري والشامي وِطاء أي : وِفاقاً ، أي : يوافق فيها القلبُ اللسانَ ، وعن الحسن : أشدّ موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق وغيرها ، أو : أشدّ ثباتَ قَدَم وكلفة ، أي : أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته ، من قوله عليه السلام : " اللهم اشْدُدْ وطْأَتَك على مُضَرَ " { وأقْوَمُ قِيلاً } أي : أصْوب مقالاً ، وبه قرأ أنس ، فقيل له : إنما هو أقوم فقال : أقوم وأصوب واحد ، وإنما كانت قراءة الليل أصوب قولاً لقلة خطأ اللسان فيها لتفرُّغه من ثقل الطعام ، وقيل : المعنى : أثبت قراءةً لحضور القلب لهدوّ الأصوات ، وانقطاع الحركات . { إِنّ لك في النهار سَبْحاً طويلاً } أي : تصرُّفاً وتقلُّباً في مهمّاتك واشتغالاً بتعليم أمتك ، فتفرّغ بالليل لعبادة ربك . { واذكر أسْمَ ربك } أي : دُم على ذكره في الليل والنهار ، على أي وجهٍ ، من تسبيح وتهليل وتكبير ، وقراءة قرآن ، وتدريس علم . { وتبتلْ إِليه } أي : انقطع إلى عبادته عن كل شيءٍ ، بمجامع الهمة ، واستغراق العزيمة . والتبتُّل : الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره ، وقيل : رفض الدنيا وما فيها ، والتماس ما عند الله . وأكّده بقوله : { تبتيلا } زيادةً في التحريض ، مع ما فيه من رعاية الفواصل . { ربُّ المشرقِ والمعربِ } أي : هو رب ، أو : مبتدأ خبره : { لا إِله إلاّ هو } ، ومَن قرأه بالجر فبدل من " ربك " ، وقيل : على إضمار القسم ، وجوابه : لا إله إلاّ هو ، أي : وربِّ المشرق لا إله إلا هو ، كقولك : والله لا أحد في الدار . { فاتَّخِذْه وَكِيلا } أي : وليًّا وكفيلاً بما وعدك من النصر والعز . والفاء لترتيب ما قبله ، أي : إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب ، وأن لا إله إلا هو ، فاتخذه كفيلاً لأمورك . { واصبرْ على ما يقولون } في جانبي من الصاحِبة والولد ، وفيك مِن الساحر والشاعر ، { واهجرهم هَجْراً جميلاً } بأن تُجانبهم وتداريَهم ولا تجافهم ، بل كِلْ أمرهم إلى ربهم ، كما يُعرب عنه ما بعده ، أون : جانبهم بقلبك وخالطِهم بجسمك مع حسن المخالطة وترك المكافأة ، وقيل : هو منسوخ بآية القتال . الإشارة : يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار ، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار ، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه ، قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " ، وقيام الليل لا يخص بالصلاة ، بل لكل مقام مقال ، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار ، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار ، وهي صلاة القلوب الدائمة . وقوله تعالى : { ورتِّل القرآنَ ترتيلا } خطاب لأهل التهجُّد ، وهم ألوان مختلفة ، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها ، وهم أهل الخوف المزعِج ، أو الشوق المقلِق ، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة ، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة ، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين ، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر ، أو بين المغرب والعشاء . وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة ، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة ، وابن عباس مائة مرة ، وكان سليمان بن عمير يختمه ثلاث ختمات في كل ليلة ، ويجامع أهله بعد كل ختمة . وكان رجل بالمشرق ، يُقال له " أبو عيسى التلمساني " ، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة ، فذكر ذلك بمدينة سبتة ، بحضور الفقيه العزفي ، فقال الفقيه : لون كان يقول : القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة ، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك ، فخرج إلى المشرق ، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك . قلت : وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين ، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان ، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته ، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج ، كما في الصحيح ، وذكر الفرغاني في شرح التائية : أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني ، فأنكر بعضٌ ذلك عليه ، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم ، وهو يسمع حرفاً حرفاً ، فسبحان القادر على كل شيء ؟ ! . وقوله تعالى : { إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا } ، قال القشيري : ثقيلاً أي : له خطْر ويقال : لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية ، ورُبّي في حجر التقريب . هـ . قال الورتجبي : وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم ، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان ، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير ، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق ، فكان يحمل الحق بالحق . هـ . المراد منه . إنَّ ناشئة الليل أي : نشأة الفكرة في الليل هي أشد وطأً ، أي : موافقة ، وغرقاً في بحر الذات ، وتيار الصفات لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس . وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء ، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه ، شاخصاً ببصره إلى السماء ، فقال لمَن رآه كذلك : دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي ، وأطلعني على عجائب ملكوته … الخ كلامه ، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات ، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية ووقوفه في ذلك لغلبة الحال ، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود ، ويَدُورون معه ، وهم على فُرشهم ، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب . وقوله تعالى : { إن لك في النهار سَبْحاً طويلا } السَبح هو العوم ، أي : إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية ، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك ، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك ، وهو عين السَبْح المتقدم ، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن ، فبالتبتُّل يحصل الوصول ، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان ، ثم يسبح في بحر العيان . رب المشرق والمغرب ، أي : مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان ، بسطوع شمس العيان . لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً ، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً ، ويمنحك فخراً جليلاً ، واصبر على ما يقولون في جانبك ، فإنَّ الداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور . { واهجرهم هجراً جميلاً } ، قال القشيري : أي : عاشِرهم بظاهرك ، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك ، ويُقال : الهجرُ الجميل : ما يكون بحق ربك ، لا بحظِّ نفسك . هـ . وإذا هَجَرْتَ أهل الإنكار ، فكِلْ أمرهم إلى الواحد القهّار ، كما قال تعالى : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } .