Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-10)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها المدَّثِّر } أي : المتدثر أُدغمت التاء في الدال ، أي : المتلفّف في ثيابه ، من الدِّثار ، وهو كلُّ ما كان من الثياب فوق الشعار ، والشعار : الثوب الذي يلي الجسد . قيل : هي أول سورة نزلت ، والصحيح : أن أول ما نزل : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِكَ … } [ العلق : 1 ] إلى قوله { … عَلَّمَ ٱلإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 5 ] ثم فتر الوحي نحو سنتين ، فحزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جعل يأتي شواهق الجبال ، فيريد أن يتردَّى منها ، فأتاه جبريلُ عليه السلام ، وقال : إنك نبي الله ، فرجع إلى خديجة ، فقال : دثِّروني وصُبوا عليَّ ماءً بارداً ، فنزل : { يا أيها المُدَّثر } ، وقيل : سمع من قريش ما كرهه ، فاغتم ، فتغطّى بثوبه متفكراً ، كما يفعل المغتم ، فأمر ألاّ يدع إنذارهم وإن آذوه ، فقال : { قُمْ } أي : من مضجعك أو قيام عزم وتصميم ، { فأنذِرْ } أي : فَحذِّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا ، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص ، كما يُنبىء عنه قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ : 28 ] . { وربَّك فَكَبِّرْ } أي : خُص ربك بالتكبير ، وهو التعظيم قولاً واعتقاداً ، فلا يَكْبُرُ في عينك إلاّ الله ، وقل عندما يعروك من غيره : الله أكبر . رُوي أنه لمّا نزل ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر " فكبَّرت خديجة وفرحت ، وأيقنت أنه الوحي . وقد يُحمل على تكبير الصلاة ، والفاء بمعنى الشرط ، كأنه قيل : أيّ شيء حدث فلا تدع تكبيره . { وثيابَك فطهِّرْ } مما ليس بطاهر ، فإنه واجب في الصلاة ، فلا تصح إلاّ بها ، ووَصْفُ كمالٍ في غيرها ، وذلك بصيانتها عن النجاسات ، وغسلها بعد إصابتها ، أو قَصِّرْها مخالفةً للعرب في تطويلهم الثياب ، وجرهم الذيول كِبراً ، فإنَّ طولها يؤدي إلى جرها على القاذورات ، وهو أول ما أُمر به صلى الله عليه وسلم من ترك العادات المذمومة ، وقيل : المراد تطهير النفس مما يُستقبح من الأفعال ، ويُستهجن من الأحوال يُقال : فلان طاهر الذيل والرداء ، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق ، ولأنَّ مَن طهر باطنه ظاهره غالباً . قال ابن العربي في أحكامه : والذي يقول : إنها الثياب المَجازية أكثر . هـ . ومَن قال : إنها الحسية استدل بها على وجوب غسل النجاسة للصلاة ، وبه قال الشافعي ، ومالك ، في أحدى الروايات عنه . { والرُّجزَ فاهجرْ } أي : دم على هجرانها ، قاله الزهري وغيره . وقال ابن عباس : أي : اترك المآثم التي توجب الرجز ، وهو العذاب ، وفيه لغتان : كسر الراء ، وضمها ، وقُرىء بهما معاً . قال الكسائي : الرُّجز بالضم : الوثن ، وبالكسر : العذاب . { ولا تمننْ تستكثرُ } أي : ولا تعطِ مُتكثِّراً ، أي : رائياً لما تعطيه كثيراً ، أو طالباً للكثير على ما أعطيت ، فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق ، وأشرف الآداب ، وهو من المنّ بمعنى الإنعام ، يُقال : مَنَّ عليه إذا أعطاه وأنعم عليه ، " وتستكثر " : حال ، أي : لا تُعطِ حال كونك تُعد ما أعطيت كثيراً ، أو طالباً أكثر مما أعطى . وقرأ الحسن بالجزم جواب النهي . { ولربك فاصبِرْ } أي : لوجه الله استعمل الصبر على أوامره ونواهيه ، وعلى تحمُّل مشاق أعباء التبليغ وأذى المشركين . { فإِذا نُقِرَ في الناقور } أي : نُفخ في الصور ، وهو فَاعُول من النقر ، بمعنى التصويت ، وأصله : القرع ، الذي هو سبب الصوت ، والفاء سببية ، كأنه قيل : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم هائل ، يلْقون فيه عاقبة أذاهم ، وتلقى عاقبة صبرك ، والعامل في " إِذا " قوله : { فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ } ، فإنَّ معناه : عسر الأمر على الكافرين إذا نُقر في الناقور ، و " ذلك " إشارة إلى وقت النقر ، وهو مبتدأ ، و { يومئذ } : مرفوع المحل بدل منه ، و { يوم عسير } : خبر ، كأنه قيل : يوم النقر يوم عسير { على الكافرين } ، وأكّده بقوله : { غيرُ يسير } ليؤذن بأنه يَسيرٌ على المؤمنين ، أو عسيرٌ لا يُرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا . واختُلف في أن المراد به : يوم النفخة الأولى أو الثانية ، والحق إنها الثانية إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين ، وأما النفخة الأولى ، فحكمها الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر ، على أنها مختصة بمَن كان حيًّا عند وقوعها ، وقد جاء في الأخبار : أن في الصور ثُقْباً بعدد الأرواح ، وأنها تجمع في تلك الثُقب في النفخة الثانية ، فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح ، فترجع إلى الجسد الذي نزعت منه ، فيعود الجسد كما كان حيًّا ، بإذن الله تعالى . الإشارة : يا أيها المتدثر بالعلوم والأسرار والمعارف قُم فأنذر الناسَ ، والخطاب للداعي الأكبر صلى الله عليه وسلم ، ويتوجه لخليفته في كل زمان ، وهو مَن وجَّهه الله لتذكير العباد ليحيي به الدين في أول كل عصر ، كما في الأثر . قال الورتجبي : يا أيها المدثر ، أي : يا أيها الغريق في قَلزوم القِدم ، قُم لدعوى محبتي ، وأنذر أحبائي عن الاشتغال بغيري ، وأَظْهِر جواهر حقائب بحر غيبي للمقبلين إلينا . ثم قال على قوله : وربك فَكَبِّر ، عن الحُسيْن : عَظِّم قدره عن احتياجه إليك في الدعوة إليه ، فإنَّ إجابة دعوتك ممن سبقت له الهداية مني . هـ . قال القشيري : كبِّر ربك عن احتياجه إلى تكبير أحد ، فإنَّ كبرياءه ذاتيٌّ له ، قائم بنفسه ، لا بغيره من المكبِّرين . هـ . والمتبادر أنه أمَرَ الداعي بتعظيم الله وإجلاله دون غيره من سائر المنذرين ، فلا تمنعه جلالة أحد من العظماء والمتكبرين عن التصدَّي لإنذاره وتذكيره . وقوله تعالى : { وثيابك فطهِّر } أي : نَزّه ثياب إيمانك وعرفانك عن لوث الطمع في الخلق ، وخصوصاً عند الدعوة ، فلا تسأل عليه أجراً ، ولا تؤمّل في جانبه عوضاً ، فتُحرم بركة إنذارك ، ويقلّ الانتفاع به . وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : رأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقال : يا علي ، طَهِّر ثيابك من الدنس ، تَحْظَ بمدد الله في كل نَفَس ، فقلتُ : وما ثيابي يا رسول الله ؟ فقال : إنَّ الله كساك حُلة المعرفة ، ثم حُلة المحبة ، ثم حُلة التوحيد ، ثم حُلة الإيمان ، ثم حُلة الإسلام ، فمَن عرف الله صَغُر لديه كل شيء ، ومَن أحبّ الله هان عليه كل شيء ، ومَن وحّد الله لم يشرك به شيئاً ، ومَن آمن بالله أَمِن من كل شيء ، ومَن أسلم لله قلّما يعصيه ، وإن عصاه اعتذر إليه ، وإذا اعتذر إليه قَبِل عُذره . قال : ففهمتُ حينئذ قوله تعالى : { وثيابك فَطَهّر } . هـ . والرُّجز : كلُّ ما يشغل عن الله ، فيُهجر اشتغالاً بالله ، ولا تمنن ببذل مُهجتك على ربك ، مستكثراً لذلك ، فإنَّ قيمة وجودك لا تُساوي عُشر العشر من عظمة وجوده ، الذي يمنحك بدلاً من وجودك الذي أعطيته ، أو : ولا تمنن عليه بوجودك تطلب وجوده ، فإنَّ وجوده إنما يُنال بكرمه ، لا بشيء من العلل ، ولربك فاصبر ، أي : ولأجل الوصول إلى ربك فاصبر على مشاق السير ، أو : ولربك فاصبر على إذاية الخلق في حال الدعوة . قال الورتجبي : ولربك فاصبر في بذل وجودك في جريان تقديره ، أو مع ربك ، وفي ربك ، حين انكشف لك أنوار أسراره ، وخاصيتُكَ في النظر إلى جلاله وجماله ، ولا تنزعج ، فتسقط عن درجة التمكين . وقال القاسم : ولربك فاصبر تحت القضاء والقدر . هـ . فإذا نُقر في الناقور : نُفخ في صور الفناء ، فتندك السموات والأرض ، بإظهار ما فيها من الأسرار ، فتُطوى عن نظر العارف ، فيفنى مَن لم يكن ، ويبقى مَن لم يزل ، فذلك يوم عسير على الكافرين بطريق الخصوص إذ لا تنهدم العوالم لعين البصيرة إلاَّ لمَن هدم عوائد نفسه ، وخالف هواه . وبالله التوفيق . ثم ذكر بعض رؤساء الكفرة الذين يعسر عليهم ذلك اليوم ، فقال : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } .