Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 11-30)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ذَرْنِي ومَنْ خلقتُ } أي : كِلْ أمره إليَّ فأنا أكفيك أمره ، وهو الوليد بن المغيرة ، وقوله : { وحيداً } : حال من عائد الموصول ، أي : خلقته منفرداً ، لا مال له ولا ولداً ، أو من الياء ، أي : ذرني وحدي معه ، فأنا أكفيكه ، أو من التاء ، اي : خلقته وحدي ولم يشاركني في خلقه أحد ، والأول أنسب بقوله : { وجعلتُ له مالاً ممدوداً } مبسوطاً كثيراً ، أو ممدوداً بالنماء ، وكان له الزرع والضرع والتجارة ، وعن مجاهد : له مائة ألف دينار ، وكان له أرض بالطائف ، لا تنقطع ثمارها صيفاً وشتاءً ، { وبنينَ شُهوداً } حضوراً معه بمكة لغناهم ، يتمتع بشهودهم ، لا يفارقونه لعمل ، لكونهم مكُفيين ، أو حضوراً في الأندية والمحامل لوجاهتهم ، واعتيادهم ، وكانوا عشرة ، وقيل : ثلاثة عشر ، وقيل : سبعة ، كلهم رجال ، الوليد بن الوليد ، وخالد ، وعمار ة ، وهشام ، والعاصي ، وقيس ، وعبد شمس ، أسلم منهم خالد وهشام وعمارة ، وجعل السهيلي بدل عمارة الوليدَ بن الوليد ، وهو الصحيح ، وفيه قال عليه السلام : " اللهم أنج الوليد بن الوليد " حين كان يُعذّب بمكة على الإسلام ، والوليد هذا كان سبب إسلام أخيه خالد ، وكان خالد فارًّا منه صلى الله عليه وسلم ، فسمع الوليدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : " لو أتانا لأكرمناه " ، فكتب إليه ، فوقع الإسلام في قلبه ، وسمّاه سيفاً من سيوف الله ، به فتح الله كثيراً من البلدان ، وأما عُمارة فذكر غيرُ واحد أنه مات مشركاً عند النجاشي ، ويروى أنَّ النجاشي قتله بسبب اختلافه إلى زوجته ، ووشى به عَمْرُو بن العاص ، كما ذكره الطيبي . انظر المحشي . { ومَهَّدتُ له تمهيداً } أي : بسطت له الجاه العريض ، والرياسة ، حتى كان يُلقَّب ريحانة قريش ، فأتممت عليه نعمتَي الجاه والمال ، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا ، { ثم يطمعُ أن أزيدَ } على ما أوتيه من المال والولد والجاه من غير شكر ، وهور استبعاد واستنكارٌ لطمعه وحرصه . وعن الحسن : يطمع أن أزيده الجنة ، فأعطيه فيها مالاً وولداً ، كما قال العاصي : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا } [ مريم : 77 ] ، وكان من فرط جهله يقول : إن كان محمد صادقاً فما خُلقت الجنة إلاَّ ليَ . { كلاَّ } : ردع وزجر عن طمعه الفارغ ، وقطع لرجائه الخائب ، أي : لا نجمع له بعد اليوم بين الكفر والمزيد من النِّعم ، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه ، وانتكاس ، حتى هلك ، { إِنه كان لآياتنا } القرآن { عنيداً } معانداً جاحداً ، وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف ، كأنّ قائلاً قال : لِمَ لا يُزاد ؟ فقال : إنه عاند آيات المنعِم ، مع وضوحها ، وكَفَرَ نعمته مع سُبُوغها ، وهو مما يوجب حرمانها بالكلية ، مع أن ما أوتيه إنما هو استدراج يوجب مزيد العذاب ، كما قال تعالى : { سأُرهقه صَعوداً } سأُغشيه بدل ما يطمعه من الجنة عقبة شاقة المصْعد ، وهو مثل لِما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يُطاق ، وفي الحديث : " الصعود : جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ، ثم يهوي فيه كذلك أبداً " . ثم علّل استحقاقه لهذا العذاب بقوله : { إِنه فَكَّر } ما يقول في شأن القرآن ، { وقَدَّر } في نفسه ما يقوله وهياه ، كأنه تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز لعناده ، ويُعاقبه في الآخرة بأشد العذاب ، لبلوغه بالعناد غايته ، حيث قال في كلامه تعالى المعجِز : سحراً ، وفي رسوله عليه السلام : ساحراً ، { فقُتل } أي : لُعن { كيف قَدَّر ثم قُتل كيف قَدَّر } ؟ كرّر للتأكيد ، و " ثم " للإشعار بأنَّ الدعاء الثاني أبلغ ، وقيل : هو تعجيب من تقديره وإصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش ، قاتلهم الله ، كما يقال : قاتله الله ما أشجعه ، وأخزاه الله ما أشعره ! رُوي أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ " حم " غافر ، أو فُصلت ، ثم رجع إلى بني مخزوم فقال : والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإنَّ له لحلاوة ، وإنَّ عليه لَطلاوة ، وإنَّ أعلاه لمُثمر ، وإنَّ أسفله لمُغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ، فقالت قريش : صبأ والله الوليد ، لتَصْبُوَنّ قريش كلها ، فقال ابن أخيه أو جهل : أنا أكفيكموه ، فانطلق إليه حزيناً ، فقال له : ما لي أراك حزيناً ؟ فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كِبر سنك ، يزعمون أنك زيّنت كلام محمد ، تدخل على ابن أبي كبشة وأبي قحافة ، لِتنال من طعامهم ، فغضب الوليد ، وقصدهم ، وقال : تزعمون أنَّ محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يُخْنِقُ قط ؟ قالوا : لا ، قال : تزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالو : لا ، قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهّن قط ؟ قالوا : لا ، قال : تزعمون أنه كذّاب ، فهل جريتم عليه من الكذب قط ؟ قالوا : اللهم لا ، ثم قالوا له : فما هو ؟ ففكَّر فقال : ما هو إلاَّ ساحر ، أمّا رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن أهل بابل ، فارتجّ النادي فرحاً ، وتفرّقوا معْجبين بقوله متعجبين منه ، وهذا معنى قوله : { إنه فكَّر … } الخ . { ثم نَظَرَ } أي : في القرآن مرة بعد مرة ، أو نظر بأي شيء يَرُدُّ الحقَّ ، أو فيما قدّر ، { ثم عَبَسَ } قطَّب وجهه لمَّا لم يجد فيه مطعناً ، ولم يدرِ ماذا يقول ، وقيل : نظر في وجوه الناس ، ثم قطَّب وجه ، { وبَسَرَ } زاد في العبوسة والكلوح ، { ثم أدبرَ } عن الحق ، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { واستكبر } عن اتباعه ، و { ثم نظر } : عطف على قَدَّر ، والدعاء اعتراض ، وإيراد " ثم " في المعطوفات لبيان أنَّ بين الأفعال والمعطوفة تراخياً أو تفاوتاً ، { فقال إِنْ هذا إِلاّ سِِحْر يُؤثَرُ } أي : يُروى ويُتعلم ، والفاء للدلالة على أنَّ هذه الكلمة لمّا خطرت بباله تفوَّه بها من غير تَلعثم ولا تلبُّث وقوله : { إِنْ هذا إِلاَّ قولُ البشرِ } تأكيد لِما قبله ، ولذلك أخلى عن العاطف . قال تعالى : { سأُصليه } سأُدخله { سَقَر } ، وهو بدل من { سأُرهقه صَعُوداً } وسقر : علم لجهنم ، ولم ينصرف للتعريف والتأنيث ، { وما أدراك ما سَقَرُ } ، تهويل لشأنها ، { لا تُبقي ولا تَذرُ } ، بيان لحالها ، أي : لا تُبقي شيئاً يُلقى فيها إلاَّ أهلكته ، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يُعاد ، أو : لا تُبقي لحماً ، ولا تّذرُ عظماً ، أو : لا تُبقي لحماً إلاّ أكلته ، ولا تدع أن تعود عليه أشد ما كانت ، وقال الضحاك : إذا أخذت فيهم لم تُبق منهم شيئاً ، وإذا أُعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ، ولكل شيء فترة ومَلالة إلاّ جهنم . هـ . { لوَّحاةٌ للبَشرِ } أي : مغيّرة للجلود حتى تُسوّدها ، تقول العرب : لاحته الشمس ولوَّحته ، أي : غيَّرته ، قيل : تلفح الجلد لفحة ، فتدعه أشد سواداً من الليل ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً ، نظيره : { وَبُرِزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] والبشر : اسم ، جمع بشرة ، وهي ظاهر جلد الإنسان ، ويجمع أيضاً على أبشار ، { عليها تسعةَ عشرَ } أي : على أمرها تسعة عشر ملكاً ، خزنتُها ، وقيل : تسعة عشر صِنفاً من الملائكة ، وقيل : صفًّا ، وقيل : نقيباً . قيل : الحكمة في تخصيص هذا العدد لخزنة جهنم أن ذكرهم الذي يتقوَّون به البسلمة ، وذلك عدد حروفها . هـ . والله تعالى أعلم . الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على كل مَن آتاه الله المالَ والجاه البنين ، ثم جعل ينتقد على أولياء الله ، ويحتقر أهل النسبة ، بل على كل مَن يُطلق لسانه في أهل النسبة يناله ما نال الوليد لأنه كان لآيات الله وهم خاصة أوليائه عنيداً جاحد القلب ، وحاسداً ، سأُرهقه صَعُوداً ، أي : عذاباً متعباً له ، في الدنيا بالحرص والطمع ، وفقر القلب ، وكذا العيش في الآخرة بسدل الحجاب ، والطرد عن ساحة المقربين ، إنه فَكَّر فيما يكيد به أولياءه ، وقَدّر ذلك ، فلُعن كيف قَدّر ، ثم نظر إليهم فعبس وبسر . قلت : وقد رأيتُ بعض المتفقهة المتجمدين ، إذا رأوا أحداً من أهل التجريد ، عبسوا وقطَّبوا وجوههم ، ولووا رؤوسهم ، لشدة حَنقهم على هذه الطائفة ، نعوذ بالله من الحرمان . وكل ما رُمي به صلى الله عليه وسلم من السحر وغيره قد رُمي به خلفاؤه ، فيُقال لمَن رماهم وعابهم : سأُصليه سقر ، نار القطيعة والبُعد ، لا تٌبقي له رتبة ، ولا تذر له مقاماً ولا جاهاً عند الله ، تُزيل عنه سيما العارفين ومهجة المحبين وتغير بشريته بالكآبة والحسرة ، والتأسُّف عن التخلُّف عن مقام المقربين ، عليها ، أي : على النار المحيطة بهم ، تسعة عشر حجاباً حجاب المعاصي القلبية والقالبية ، ثم حجاب الغفلة ، ثم حُب الدنيا ، ثم حب الهوى ، ثم الحسد ، ثم الكفر ، ثم الحقد ، ثم الغضب ، ثم حب الظهور ، ثم حب الجاه ، ثم الطمع ، ثم الحرص ، ثم خوف الفقر ، ثم هَم الزرق ، ثم خوف الخلق ، ثم التدبير والاختيار ، ثم العَجَلة ، ثم الرعونة ، ثم حجاب الحسد والوهم . والله تعالى أعلم . ثم ذكر حكمة جعل الخزنةَ تسعة عشر ، فقال : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً } .