Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 38-56)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { كلُّ نفس بما كسبتْ رهينةٌ } أي : مرهونة ، محبوسة عند الله تعالى بكسبها . ورهينة : فعلية ، بمعنى مفعولة ، وإنما دخلتها التاء ، مع أن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، تقول : رجل جريح ، وامرأة جريح لأنها هنا لم تتبع موصوفاً اصطلاحياً ، ومَن قال : إنَّ الخبر في معنى الصفة فهي تابعة له ، جعل " رهينة " اسماً بمعنى الرهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وقيل : إنَّ التاء في رهينة للنقل مع الوصفية للاسمية ، لا للتأنيث ، كما في نصيحة وذبيحة . هـ . فكل واحد مرهون بذنبه . { إِلاَّ أصحابَ اليمين } فإنهم فاكُّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم ، كما يفك الراهن رهنه بأداء الدَّين ، وقيل : هم أطفال المسلمين لأنهم لا أعمال لهم يُرهنون بها ، وقيل : هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، { في جنات } ، لا يُكتَنَهُ كُنهها ، ولا يُدرك وصفها ، أي : هم في جناتٍ ، والجملة استئناف بياني ، كأنه قيل : ما بالهم ؟ فقال : هم { في جناتٍ يتساءلون } يسأَل بعضهم بعضاً { عن } أحوال { المجرمين } ، فيقول بعضهم لبعض : قد سألناهم فقلنا له : { ما سلككم في سقرٍ } ؟ فـ { قالوا لم نك من المصلين … } الخ . قاله النسفي ، ورده أبو السعود ، فقال : وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضُهم بعضاً ، على أن يكون كل واحد منهم سائلاً ومسؤولاً معاً ، بل صدور السؤال عنهم مجرداً عن وقوعه عليهم ، فإنَّ صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدد ، ووقوعه عليه معاً ، بحيث يصير كل واحد فاعلاً ومفعولاً معاً ، كما في قولك : تراءى القوم ، أي : رأى كُلُّ واحد منهم الآخر ، لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ، ويقصد بها الدلالة على الأول فقط فيُذكر للفعل حينئذ مفعول ، كما في قولك : تراءوا الهلال ، فمعنى { يتساءلون عن المجرمين } : يسألونهم عن أحوالهم ، وقد حذف المسؤول لكونه عيَّن المسؤول عنه ، أي : يسألون المجرمين عن أحوالهم ، وقوله تعالى : { ما سلككم في سقر } : مقول لقول هو حال من فاعل " يتساءلون " أي : يسألونهم قائلين : أيُّ شيء أدخلكم في سقر ؟ فتأمل ودع عنك ما يتكلّف المتكلفون . هـ . { قالوا } أي : المجرمين مجيبين للسائلين : { لم نكُ من المصلِّين } للصلوات الواجبة ، { ولم نك نُطعم المسكين } كما يُطعم المسلمون ، وفيه دلالة على أنّ الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة ، { وكنا نخوض مع الخائضين } أي : نشرع في الباطل مع الشارعين فيه ، فنقول الباطل والزور في آيات الله ، { وكنا نُكذِّب بيوم الدين } بيوم الجزاء والحساب . وتأخير ذكر جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها ، كأنهم قالوا : وكنا بعد ذلك مكذِّبين بيوم الدين ، ولبيان كون تكذيبهم به مقارناً لسائر جناياتهم المعدودة مستمراً إلى آخر عمرهم ، حسبما نطق به قوله تعالى : { حتى أتانا اليقينُ } الموت ومقدماته ، { فما تنفعهم شفاعةُ الشافعين } من الملائكة والنبيين والأولياء والصالحين ، لأنها خاصة بالمؤمنين ، وفيه دلالة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، وفي الحديث : " إن من أمتي مَن يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر " . { فما لهم عن الذكرةِ } عن التذكير والوعظ بالقرآن { معرِضين } مولّين ، والفاء لترتيب ما قبلها من موجبات الإقبال عليه ، والاتعاظ به من سوء حال المعرضين ، و " معرضين " : حال من الضمير الواقع خبراً لـ " ما " الاستفهامية ، كقولك : ما لك قائماً ؟ أي : فإذا كان حال المكذّبين به على ما ذكر من سوء الحال . فإيُّ شيء حصل لكم حال كونكم معرضين عن القرآن ، مع تعاضد الدواعي إلى الإيمان ؟ { كأنهم حُمُرٌ } أي حُمر الوحش { مُستنفِرَةٌ } شديدة النفار ، كأنها تطلب النفار من نفوسها . وقرأ نافع والشامي بفتح الفاء ، أي : استنفرها غيرُها ، وجملة التشبيه حال من ضمير " معرضين " أي : مشبّهين بحُمر نافرة { فرّتْ من قسورة } أي : من أسد فَعْولة من القَسر ، وهو القهر ، وقيل : هي جماعة الرماة الذين يصطادونها ، شُبِّهوا في إعراضهم عن القرآن ، واستماع ما فيه من المواعظ ، وشرودهم عنه بحُمر حدث في نفارها ما أفزعها . وفيه مِن ذمهم وتهجين حالهم من تشبيههم بالحُمر ما لا يخفى . { بل يُريد كل امرىءٍ منهم أن يُؤتَى صُحفاً مُنَشَّرةً } : عطف على مُقدّر يقتضيه الكلام ، كأنه قيل : لم يكتفوا بتلك التذكرة ، ولم يَرضوا بها ، بل يُريد كل امرىء منهم أن يُؤتى { صُحفاً مُنشَّرة } قراطيس تُنشر وتٌقرأ ، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى تأتي كلَّ واحدٍ منا بكتاب من السماء ، عنوانها : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، وهذا كقوله : { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 93 ] . وقيل : قالوا : إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة ، فيها براءته وأمنه من النار . { كَلاَّ } ، ردع لهم عن تلك الجرأة ، وزجر عن اقتراح الآيات ، { بل لا يخافون الآخرة } فلذلك يُعرضون عن التذكرة ، لاَ لامتناع إيتاء الصُحف . { كَلاَّ إِنه تذكرةٌ } زجَرهم عن إعراضهم عن التذكرة ، وقال : إن القرآن تذكرة بليغة كافية ، { فمَن شاءَ ذكرَه } أي : فمَن شاء أن يذكره ذكره ، وحاز سعادة الدارين ، { وما يَذْكُرُون } بمجرد مشيئتهم { إِلاّ أن يشاء اللهُ } هدايتهم فيذكرون ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال ، أي : وما يذكرون لِعلةٍ من العلل ، وفي حال من الأحوال ، إلاَّ أن يشاء الله ذلك ، وهو تصريح بأنَّ أفعال العباد كلها بمشيئة الله تعالى ، وقرأ نافع ويعقوب بتاء الخطاب للكفرة . { هو أهلُ التقوى } أي : حقيق با ، يُتقى عقابه ، ويؤمن به ويُطاع ، { وأهلُ المغفرةِ } حقيق بأن يَغفر لمَن آمن به وأطاعه ، وعنه عليه السلام في تفسيرها : " هو أهل أن يُتّقى ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه " . وفي رواية ابن ماجه والترمذي : " قال الله تعالى : أنا أهل أن أُتَّقَى ، فلا يُجعل معي إله آخر ، فمَن اتقى ذلك فأنا أهل أن أغْفر له " قال ذلك عليه السلام لَمّا قرأ الآية . هـ . الإشارة : قال الورتجبي : قوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة … } الخ ، كلُّ واقفٍ مع حال ، وملاحظ لمقام ، فهو مرتهن ، إلاّ مَن تجرّد مما دون الله ، وهم أصحاب يمين مشاهدة الحق ، فإنهم في جنان قُربه ووصاله . هـ . أي : كل نفس واقفة مع حالها أو مقامها مرتهنة معه ، إلاّ مَن ينفذ إلى شهود الحق ، إنه يكون من قبضة اليمين الذين اختارهم الله بمحض الفضل ، فهم في جنات المعارف يتساءلون عن الغافلين : ما سلككم في سقر السقوط من درجة القُرب والوصال ؟ قالوا : لم نك من المُصلِّين الصلاة الدائمة ، ولم نك نُطعم المسكين ، بل كنا بُخلاء بأموالنا وأنفسنا ، وكنا نخوض في أودية الدنيا مع الخائفين ، وكنا نُكذّب بيوم الدين لأنَّ أفعالهم كانت فعل مَن لا يُصدّق بيوم الحساب ، حتى أتانا اليقين بعد الموت ، فندمنا ، فلم ينفع الندم وقد زلّت القَدَم ، فما تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، حيث ماتوا غافلين لأنَّ الشفاعة لا تقع في مقام القُرب والاصطفاء ، فمَن مات بعيداً بسبب الغفلة لا يصير قريباً ، ولو شفع فيه ألف نبي وألف وَلِيّ ، إذ القُرب على قدر الكشف ، وكشف الحجاب عن الروح إنما يحصل في هذه الدار ، لقوله عليه السلام : " يموت المرء على ما عاش عليه ، ويُبعث على ما مات عليه " وإنما تقع الشفاعة في النجاة ، أو في الدرجة الحسية ، والله تعالى أعلم . فما لهم ، أي : لأهل الإعراض عن المذكِّر ، عن التذكرة منه مُعرضين ، كأنهم حُمر الوحش فرّت من قسورة ، وتشبيههم بالحُمر في البلادة والجهل ، وكل مَن طلب الكرامة من الأولياء فهو كاذب في الطلب ، إذ لو صدق في الطلب لأراه الله الكرامات على أيديهم كالسحاب ، كلاَّ بل لا يخافون الآخرة ، ولو خافوها وجعلوها نُصب أعينهم لما توقّفوا على كرامة ولا معجزة ، والأمر كله بيد الله ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة . وبالله التوفيق ، وصلّى الله سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .