Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 74, Ayat: 31-37)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وما جعلنا أصحابَ النار } أي : خزنتها ، المدبّرين لها ، القائمين بتعذيب أهلها ، { إِلاَّ ملائكةً } لأنهم خلاف جنس المعذّبين ، فلا تأخذهم الرأفة والرقّة ، ولأنهم أشد الخلقِ بأساً ، فللواحد منهم قوة الثقلين ، ونَعَتهم صلى الله عليه وسلم فقال : " كَأَنَّ أعْيُنَهُمُ البَرقُ ، وكأنَّ أفْواهَهم الصَّيَاصِي ، يَجرُّون أشعَارَهم ، لأحدِهم قوةُ الثَّقَلَيْنِ ، يَسوقُ أحدُهُم الأُمَّةَ ، وعَلَى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ فَيَرْمِيهم في النَّارِ ، ويَرْمي الجبلَ عَلَيْهم " وفي رواية : " بيد كُلِّ واحدٍ منهم مِرْزَبَّة مِن حَديدٍ " وفي رواية عن كعب : " مَعَ كُلِّ واحد مِنْهم عَمودٌ وشعبتَان يَدْفع به الدَّفَع يصرع به في النَّارٍ سَبعمَائَة أَلْفٍ ، وبَيْن مِنْكَبَي الخازِنِ مِن خزَنَتِها مسيرةُ مَائةِ سَنَة " وفي حديث آخر : " ما بَيْن منكبي أَحَدهِم كَما بَيْن المشرقِ والمغرب ، وليس في قلوبِهِمْ رَحْمَةٌ ، يَضْربُ أحدُهم الرجلَ ضَربةً ، فيتْركه طَحيناً من لَدُن قَرْنِه إلى قَدَمِهِ " وعن كعب : " يؤمر بالرجل إلى النار ، فيبتدره مائة ألف ملك " قال القرطبي : المراد بقوله : { عليها تسعة عشر } رؤساؤهم ، وأما جملة الخزنة فلا يعلم عددهم إلا الله تعالى . انظر البدور السافرة . رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى : { عليها تسعة عشر } قال أبو جهل : أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، وأنتم ألدَّهم ، أي : الشجعان ؟ فقال أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر ، اكفوني أنتم اثنين ، فنزلت الآية ، أي : وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يُطاقون . { وما جعلنا عِدَّتهم } تسعة عشر { إِلا فتنةً } أي : ابتلاء واختباراً { للذين كفروا } حتى قال أبو جهل ما قال ، أي : وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم ، فعبّر بالأثر عن المؤثّر ، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة بل جعله في القرآن أيضاً كذلك ، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر ، إذ بذلك يتحقق افتتانهم ، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب ، وازدياد المؤمنين إيماناً . انظر أبا السعود . وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل : أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة منهم يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد ، والآخر خازن جهنّم ، وهو مالك ، وهو الأكبر . وقيل : في النار تسعة عشر دركاً ، قد سلّط على كل درك مَلك ، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب ، وعلى كل لون ملك موكّل ، وقيل غير ذلك . { لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب } ، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله ، وهو متعلق بالجعل المذكور ، أي : جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم ، وصِدْقِ القرآن ، لموافقته لِما في كتبهم ، { ويزداد الذين آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم { إِيماناً } لتصديقهم بذلك ، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل ، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل ، أو : يزداد إيمانهم تيقُّناً لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم ، { ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون } ، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان ، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما ، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب ، حيث لم يقل : ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالاً ، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود ، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان ، وكم بينهما ؟ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك . قاله أبو السعود . وعطف على { يستيقن } ايضاً قولَه : { ولِيقولَ الذين في قلوبهم مرض } شك لأنَّ أهل مكة كان أكثرهم شاكين ، أو : نِفاق ، فيكون إخباراً بما سيكون بالمدينة بعد الهجرة ، { والكافرون } المشركون بمكة ، المُصرُّون على الكفر : { ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً } ؟ أي : أيُّ شيءٍ أراد بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل ؟ وقيل : لمّا استبعدوه حسبوا أنه مَثَل مكذوب ، أو : أيُّ حكمة في جعل الملائكة تسعة عشر ، لا أكثر أو أقل ؟ وإيراد قولهم هذا بالتعليل ، مع كونه من باب فتنتهم للإشعار باستقلاله بالبشاعة . و " مثلاُ " : تمييز ، أو حال ، كقوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ ءَايَةً } [ الأعراف : 73 ] . { كذلك يُضل اللهُ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء } أي : مثل ذلك الضلال وتلك الهداية يُضل الله مَن يشاء إضلاله ، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق ، ويهدي مَن يشاء هدايته بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهُدى ، فمحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء ، إضلالاً وهدايةً كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية . { وما يعلمُ جنودَ ربك } أي : جموع خلقه ، التي من جملتها الملائكة المذكورون ، { إلاّ هو } ، إذ لا سبيل لأحد إلى حصر مخلوقاته ، والوقوف على حقائقها وصفتها ، ولو إجمالاً ، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها ، من كَم وكيف ونسبة ، فلا يَعِز عليه جعلُ الخزنة أكثر مما هو عليه ، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها ، { وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر } هذا متصل بوصف سقر ، أي : ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر لينزجروا عن القبائح . { كَلاَّ } ردع لمَن أنكرها ، أو نفي لأن يكون لهم تذكُّر ، بعد أن جعلها ذِكرى ، أي : لا يتذكرون لسبق الشقاء لهم ، { والقمرِ } ، أقسم به لِعظم منافعه ، { والليلِ إِذْ أدبرَ } أي : ذهب ، يقال : أدبر الليل ودبر : إذا ولّى ، ومنه قولهم : صاروا كأمس الدابر ، وقيل : أدبر : ولّى ، ودَبَر جاء بعد النهار ، { والصُبحِ إِذا أسفر } أضاء وانكشف ، وجواب القسم : { إِنها } أي : سقر { لإِحدَى الكُبَرِ } جمع كبرى ، أي : لإحدى الدواهي أو البلايا الكُبْر ، ومعنى كونها إحداهن : أنها من بينهن واحدة في العِظم لا نظيرة لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء . { نذيراً للبشر } : تمميز لإحدى ، أي : إنها لإحدى الدواهي إنذاراً كقولك : هي إحدى النساء جمالاً ، أو حال مما دلّت عليه الجملة ، أي : عظمت منذرة ، { لمَن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر } : بدل من " البشر " ، بإعادة الجار ، أي : نذيراً لمَن شاء منكم أن يسبق إلى الخير أو يتأخر عنه ، وعن الزجاج : أن يتقدّم إلى ما أمر به ، ويتأخر عما نهى عنه ، وقيل : " لمَن شاء " : خبر ، و " أن يتقدّم " : مبتدأ ، فيكون كقوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . قال المحَشي : وحاصله : أنّ العبد متمكن من كسب الخير وضده ، ولذلك كلّفه لأنه علّق ذلك على مشيئته ، وليس حجة لكونه مستقلاً غير مجبور لأنَّ مشيئته مُعلقة على مشيئة الله ، { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ } [ الإنسان : 30 ] { كَلاَّ إِنَهُ تَذْكِرَةُ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ } [ المدثر : 54 - 56 ] ، وما نبهت عليه من التمكُّن والاختيار في الظاهر هو فائدة بدل " لمَن شاء " من البشر . هـ . الإشارة : من أسمائه تعالى الجليل والجميل ، فوَكَّل بتنفيذ اسمه الجليل جنوداً يَجرُّون الناسَ إلى أسباب جلاله ، من الكفر والعصيان ، ووكَّل بتنفيذ اسمه الجميل جنوداً يَجرّون الناسَ إلى أسباب جماله من الهدى والطاعة ، وما جعل ذلك إلاّ اختباراً واتبلاءً ، لمن يُدبر عنه أو يُقبل عليه ، وما جعلنا أصحابَ نار القطيعة إلاّ ملائكة ، وهم حُراس الحضرة يملكون النفس ، ويقذفونها في هاوية الهوى ، وما جعلنا عدتهم تسعة عشر حجاباً كما تقدّم ، إلاّ فتنة لأهل الغفلة ، الكافرين بوجود الخصوصية ، اختباراً لمَن يقف معها ، فتحجبه عن ربه ، ولمَن يتخلّص منها ، فينفذ إلى ربه ، ليستيقن أهل العلم بالله حين يطَّهروا منها ، ويزداد السائرون إيماناً بمجاهدتهم في التخلُّص منها ، ولا يبقى في القلب ريب ولا وَهْم ، وليقول الذين في قلوبهم مرض من ضعف اليقين : ماذا أراد الله بخلق هذه الأمراض في قلوب العباد ؟ فيُقال : أراد بذلك إضلال قوم عن حضرته ، بالوقوف مع تلك الحُجب ، وهداية قوم ، بالنفوذ عنها ، وما يعلم جنود ربك القاطعة عنه بقهره تعالى ، والموصلة إليه برحمته ، إلا هو . وقال الورتجبي : جنوده : عظمته وكبرياؤه وسلطانه وقهره ، الذي صدرت منه جنود السموات والأرض ، وله جنود قلوب العارفين ، وأرواح الموحِّدين ، وأنفاس المحبين ، التي يستهلك بها كل جبّار عنيد ، وكل قهّار عتيد . قيل : قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنكم لا تقفون على المخلوقات ، فكيف تقفون على الأسامي والصفات ؟ ! . هـ . ثم حذَّر من سَقَر الحظوظ ، والسقوط في مهاوي اللحوظ ، وأقسم أنها من الدواهي الكُبَر لِمن ابتُلي بها ، حتى سقط في الحضيض الأسفل من الناس ، فمَن شاء فليتقدّم إلينا بالهروب منها ، ومَن شاء فليتأخر بالسقوط فيها ، والغرق في بحرها . والعياذ بالله . ثم ذكر حال مَن عَلَق بها أو تخلص منها ، فقال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } .