Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 75, Ayat: 1-15)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { لا أُقسم } أي : أُقسم . وإدخال " لا " النافية على فعل القسم شائع ، كإدخاله على المقسم به في " لا وربك " و " لا والله " ، وفائدتها : توكيد القسم ، وقيل : صلة ، كقوله : { لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } [ الحديد : 25 ] وقيل : هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم ، كأنهم أنكروا البعث ، فقيل : لا ، أي : ليس الأمر كذلك ، ثم قال : أُقسم { بيوم القيامة } إنَّ البعث لواقع . وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى . وقيل : أصله : لأُقسم ، كقراءة ابن كثير على أنَّ اللام للابتداء ، و " أٌقسم " : خبر مبتدأ مضمر ، أي : لأنا أُقسم ، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف . { ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة } ، الجمهور على أنه قسم آخر ، وقال الحسن : الثانية نفي ، أي : أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة ، فيكون ذمًّا لها ، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها ، أي : أقسم بالنفس المتقية ، التي تلوم صاحبها على التقصير ، وإن اجتهدت في الطاعة . أو : بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة ، وقيل : المراد الجنس ، لِما رُوي أنه عليه السلام قال : " مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة ، إنْ عَملت خَيْراً ، قالت : كيف لم أزدْ ؟ ! وإِنْ عملت شرًّا قالت : ليتني كُنتُ قصرتُ " وذكره الثعلبي من كلام البراء : قال أبو السعود : ولا يخفى ضعفه لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام ، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة ، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس ، وقيل : بنفس آدم عليه السلام فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة . وجواب القسم : لتُبعثنّ ، دليله : { أيَحْسَبُ الإِنسانُ } أي : الكافر المنكرِ للبعث { ألَّن نجمعَ عِظامه } بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب ، أو : نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض ، أو : ألقتها في البحار . وقيل : إنَّ عَدِيّ بن ربيعة ، خَتنَ الأخنس بن شريق ، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اكفني جارَيْ السوء ، عَدياً والأخنس " قال عَدِيّ ـ : يا محمد ، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون ، وكيف أمرها وحالها ؟ فأخبره عليه السلام ، فقال : يا محمد لو عاينتُ ذلك لم أصدقك ، ولم أُومِنْ بك ، أَوَيجمعُ الله هذه العظام ؟ فنزلت . { بلى } أي : نجمعها حال كوننا { قادرين على أن نُسَوّي بنانه } أي : أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها ، فكيف بكبار العِظام ؟ ! { بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه } : عطف على { أيحسب } إمّا على أنه استفهام توبيخي ، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا ، أو : على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام ، أي : بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات ، وما يستقبله من الزمان ، لا يرعوي عنه . قال القشيري : { لِيفجُر أمامه } أي : يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته ، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه ، فلا تصحّ توبتُه لأنّ التوبة من شرطها : العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل ، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه ، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه . هـ . وقيل : { ليفجُرَ أَمامَه } أي : يكفر بما قُدامه ، ويدل على هذا قوله : { يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ } أي : متى يكون ؟ استبعاداً واستهزاءً . { فإِذا بَرِقَ البصرُ } أي : تحيَّر ، من : برق الرجل : إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، وقرأ نافع بفتح الراء ، وهي لغة ، أو من البريق ، بمعنى لمع من شدة شخوصه ، { وخَسَفَ القمرُ } ذهب ضوؤه أو غاب ، من قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ } [ القصص : 81 ] وقرىء : خُسف ، بضم الخاء . { وجُمعَ الشمسُ والقمرُ } أي : جُمع بينهما ، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار ، أو يُجمعان أسودين مكورين ، كأنهما ثوران عقِيران . وفي قراءة عبد الله : " وجمع بين الشمس والقمر " . وقال عطاء بن يسار : يجمع بينهما يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر فيكونان نار الله الكبرى ، أو : جمع بينهما في الطلوع من المغرب . { يقول الإِنسانُ يومَئذٍ } أي : حين تقع هذه الأمور العظام : { أين المفَرُّ } أي : الفرار من النار ، يائساً منه ، والمراد بالإنسان : الكافر ، أو : الجنس ، لشدة الهول . قال القشيري : وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة ، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك ، فيقول الإنسان : أين المفر ؟ فيقال : لا مهرب من قضاء الله ، " إلى ربك يومئذ المستقر " ، أي : لا محيد عن حكمه . هـ . والمفر : مصدر ، وقرأ الحسن بكسر الفاء ، فيحتمل المكان أو المصدر . { كلاَّ } ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه ، { لا وَزرَ } لا ملجأ ولا حصن ، وأصل الوَزر : الجبل الذي يمتنع فيه . قال السدي : كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال ، فقال تعالى : لا جبل يعصمكم يومئذ مني ، { إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ } أي : إليه خاصة استقرار العباد ومنتهى سيرهم ، أو : إلى حُكمه استقرار أمرهم ، أو : إلى مشيئته موضع قرارهم ، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار ، { يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ } أي : يُخبر كل امرىء ، برًّا كان أو فاجراً ، عند وزن الأعمال { بما قَدَّم } من عمله خيراً كان أو شرًّا ، فيُثاب على الأول ، ويُعَاقب على الثاني ، { وما أخَّرَ } أي : لم يعمله خيراً كان أو شرًّا ، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني ، أو : بما قدّم من حسنة أو سيئة قبل موته ، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته ، أو : بما قدّم في أول عمره ، وأخَّرَ عمله في آخر عمره ، أو : بما قَدَّم من أمواله أمامه ، وأخَّرَ آخره لورثته ، نظيره . { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [ الانفطار : 5 ] . { بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ } أي : شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة ، كما يُعرب عنه التعبير بـ " على " وما سيأتي من الجملة الحالية ، والتاء للمبالغة ، كعلاّمة ، أو : أنّثه لأنه أراد به جوارحه إذ هي التي تشهد عليه ، أو : هو حُجّة على نفسه ، والبصيرة : الحُجة ، قال الله تعالى : { قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ } [ الأنعام : 104 ] وتقول لغيرك : أنت حُجّة على نفسك . ومعنى " بل " : الترقي ، أي : يُنبأ الإنسان بأعماله ، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله ، شاهد على نفسه ، لأنّ جوارحه تنطق بذلك . و " بصيرة " : مبتدأ ، و " على نفسه " : خبر مقدّم ، والجملة : خبر " الإنسان " ، { ولو أَلْقَى معاذِيرَه } : حال من الضمير في " بصيرة " ، أو : من مرفوع ينبأ أي : ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي : هو بصيرة على نفسه ، تشهد عليه جوارحُه ، ويُعمل بشهادتها ، ولو اعتذر بكل معذرة ، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر … الخ . والمعاذير : اسم جمع للمعذرة ، كالمناكير اسم جمع للمنكَر ، لا جمع لأنّ جمعها معاذِر بالقصر ، وقيل : جمع " مِعْذار " وهو : الستر ، أي : ولو أرخى ستوره . وقيل : الجملة استئنافية ، أي : لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه ، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره ، وهي جوارحه . والله تعالى أعلم . الإشارة : قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة ، لمشاركتها له في التعظيم ، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله ، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح ، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية ، ثم تكون مطمئنة ، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة ، بل تستدل بالله على غيره ، فلا ترى سواه ، فحينئذ ترجع إلى أصلها ، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها ، وهو القِدَم والأبد ، فيتلاشى الحادث ويبقى القديم وحده ، كما كان وحده . فالنفوس أربعة : أمّارة ، ولوّامة ، ولهّامة ، ومطمئنة ، وهي في الحقيقة نفس واحدة ، تتطور وتتقلب من حال إلى حال ، باعتبار التخلية والتحلية ، والترقية والتردية فأصلها الروح ، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة ثم لوّامة ، ثم لهّامة ، ثم مطمئنة . قال القشيري : أيحسب الإنسان ، أي : الإنسان المحجوب بنفسه وهواه ، ألَّن نجمع عِظامه أعماله الحسنة والسيئة ، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه ، أي : صغار أفعاله الحسنة والسيئة ، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه ، بحسب الاعتقاد والنية ، قبل الإتيان بالفعل ، أي : يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل ، يسأل أيَّان يوم القيامة ؟ لطول أمله ، ونسيان آخرته ، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة ، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء . فإذا بَرِقَ البصرُ : تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي ، وخسَف القمر أي : ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح ، وجُمع الشمس والقمر ، أي : جُمع شمس الروح وقمر القلب ، بالتجلِّي الأحدي الجمعي ، يعني : فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان ، يقول الإنسان يومئذ : أين المفر ؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك ، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام ، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين ، بعد الفرار إلى الله ، قال تعالى : { فَفِرُّوا إِلَى اللهِ } [ الذاريات : 50 ] . هـ . بالمعنى . يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة ، حيث يرى ثمرتها ، وما أَخَّرَ ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها ، فالمشاهدة على قدر المجاهدة ، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته ، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ . بل الإنسان على نفسه بصيرة ، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه ، ويشعر بضعفه وقوته ، إن صحّت بصيرته ، وطهرت سريرته ، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره ، ولو ألقى معاذيره . وبالله التوفيق . ولَمَّا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل الوحي يتلقاه من جبريل قبل أن يقضي نزوله ، فإذا قرأ عليه جبريلُ لم يفرغ من الآية حتى يقرأها النبيُّ صلى الله عليه وسلم مخافة أن يتفلّت من صدره ، فنزل قوله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } .