Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 75, Ayat: 20-40)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { كلاَّ } أي : انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور ، { بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة } أي : بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل ، وجُبلتم عليه ، تَعْجلون في كل شيء ، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها ، { وتذرون الآخرة } مع بقائها ودوام نعيمها . قال بعضهم : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والعكس ، الآخرة من ذهب يبقى ، والدنيا من طين يفنى . ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة . { وجوه يومئذٍ ناضرةٌ } أي : وجوه كثيرة ، وهي وجوه المؤمنين المخلصين ، يوم إذ تقوم القيامة ، بهية متهللة ، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم ، { إِلى ربها ناظرةٌ } أي : مستغرِقة في مشاهدة جماله ، فتغيب عما سواه . ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة ، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا ، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا ، ومعرفته . ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة ، واقعة في الدارين عند العارفين ، وهذه الآية شاهدة لذلك ، وهي مخصَّصة لقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } [ الأنعام : 103 ] أي : لا تراه ، على قولٍ . قال بعضُهم : هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده ، حسبما ورد في الصحيح . وقوله في الحديث : " فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها " ، المراد بالصورة : الصفة ، والمعنى : أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية ، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال . والمقصود من الآية : تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة ، أي : كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة ، التي ليس فوقها شيء ، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية ، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور ؟ انظر الطيبي . وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها ، أو لثوابها ، لا يصح خلافاً للمعتزلة لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه ، وأيضاً : المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى بـ " إلى " ، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار . { ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ } أيك كالحة ، شديدة العبوسة وهي وجوه الكفار . { تظن } أي : يتوقع أربابُها { أن يُفعل بها فاقِرة } أي : داهية عظيمة ، تقصم فقار الظهر . { كلاَّ } ، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة ، أي : ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت ، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم ، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين ، وذلك { إِذا بلغتِ } الروح { التراقيَ } ، ولم يتقدّم للروح ذكر إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها ، والتراقي : العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال ، جمع : ترقوة ، أي : إذا بلغت أعالي الصدور ، { وقيلَ مَن راقٍ } أي : قال مَن حضر المحتضر : مَن يرقيه وينجيه مما هو فيه من الموت ؟ وهو من الرُقية ، وقيل : هو من كلام ملائكة الموت ، أي : أيكم يَرْقَى بروحه ، ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ؟ من الترقِّي . { وظنَّ أنه الفِراقُ } أي : تيقّن المحتضرُ أنَّ ما نزل به هو الفِراق من دار الدنيا ونعيمها التي كان يحبها { والتفَّتِ الساقُ بالساقِ } أي : التوت ساقاه بعضها على بعض عند موته . وعن سعيد بن المسيِّب : هما ساقاه حين تُلفّان في أكفانه ، وقيل : شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة على أنَّ الساق مَثَلٌ في الشدة . وعن ابن عباس رضي الله عنه : هَمَّان : هَمٌّ الولد ، وهَمُّ القدوم على الواحد الصمد . { إِلى ربك يومئذٍ المساقُ } أي : إلى الله وإلى حكمه يُساق ، لا إلى غيره ، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار ، وهو مصدر : ساقه مساقاً . { فلا صدَّق } ما يجب به التصديق ، من الرسول والقرآن الذي نزل عليه ، أو : فلا صدّق ماله زكاه ، { ولا صَلَّى } مافُرض عليه ، والضمير فيها للإنسان المذكور في قوله : { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [ القيامة : 3 ] ، أو : إلى المحتضر المفهوم من قوله : { إذا بلغت التراقي } ، وهو أقرب . { ولكن كذَّب } بما ذكر من الرسول والقرآن { وَتَولَّى } عن الإيمان والطاعة ، { ثم ذهب إلى أهله يَتَمطَّى } يبختر بذلك ، وأصله : يتمطط ، أي : يتمدّد لأنّ المتبختر يَمُدُّ خطاه ، فأبدلت الطاءُ ياءً لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة ، قال في النهاية : مِشْيةٌ مُطيْطاء ، بالقصر والمد ، أي : فيها تَبخْتُرن ويقال : مَطَوْتُ ومَطَطْتُ بمعنى مدَدْتُ ، وهي من المُصَغَّراتٍ التي لم يُستعمل لها مُكَبَّرٌ . هـ . أو : من المطا ، وهو الظَّهْر فإنه يلويه . { أَوْلَى لك فأَوْلَى } أي : ويل لك ، وأصله : أولاك الله ما تكره ، واللام مزيدة ، كما في قوله : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] أو : أولى الهلاك لك فأولى ، وقيل : هو مقلوب من الويل ، وقيل : أولى بالعذاب وأحق به ، وقيل : من الوَلى ، وهو القرب أي : قاربه ما يهلكه . { ثم أَوْلَى لك فأَوْلَى } ، كرر للتأكيد ، كأنه قيل : ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك ، وقيل : التكرير فيه ، لأنه أراد بالأول : الهلاك الدنيوي وفي القبر والبرزخ ثم في القيامة ، ثم في النار . { أيَحْسَبُ الإِنسانُ أن يُترك سُدىً } أيظن الكافرُ أن يُترك مُهْمَلاً ، لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُبعث ولا يُجازَى ، { ألم يكُ نطفة مِن مَنِيٍّ تُمنى } ؟ أي : تُراق في الأرحام ، { ثم كان علقةً } أي : صار المَنِي قطعة دم جامد ، بعد أربعين يوماً { فخَلَقَ فسَوّى } أي : فخلق الله منها بشراً سويًّا ؟ { فجعل منه } من الإنسان ، أو : من المَنِي { الزوجين } الصنفين { الذكرَ والأُنثى } لحكمه بقاء النسل ، { أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى } وهو أهون من البدء في قياس العقول ؟ كان عليه السلام إذا قرأها يقول : " سبحانك ! بلى " . الإشارة : قال في الإحياء : اعلم أنَّ رأس الخطايا والمهِلكة هو حب الدنيا ، ورأس أسباب النجاة هو : التجافي بالقلب عن دار الغرور . ثم قال : واعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ، ولا تحصل المحبة إلاَّ بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلاَّ بدوام الفكر ، ولا يحصل الأنس إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر ، ولا تتيسَّر المواظبة على الذكر إلاَّ بإقلاع حب الدنيا من القلب ، ولا يقع ذلك إلاّ بترك لذات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ، ولا تنقمع الشهوات بشيءٍ كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات . هـ . على نقل صاحب الجواهر . ومَن أسعده الله بلقاء شيخ التربية هان عليه معالجة النفس من غير تعب ، في أقرب وقت ، بحيث يُغيّبه عنها ، ويزُجه في الحضرة ، في أقرب زمان ، فيدخل في قوله تعالى : { وجوده يومئذ ناضرةٌ إِلى ربها ناظرةٌ } فتحصل له النضرة والنظرة في الدنيا والآخرة فيفنى عن نظره حسُّ الكائنات وتظهر أسرار الذات الأزلية للعيان بادية ، فيستدل بالله على غيره ، فلا يرى سواه ، وينشد ما قال الشاعر : @ فَلم يَبْق إلاّ الله لم يبقَ كائن فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثَمَّ بائِنُ بِذَا جاء بُرهانُ العَيانِ فما أرى بِعَيني إلاَّ عينَه إذْ أُعايِنُ @@ قال القشيري : قوله تعالى : { وجوه يومئذٍ ناضرةٌ … } الخ ، يُقال : هذه الآية دليل على أنهم بصفة الصحو ، ولا يداخلهم حيرة ولا دهش ، لأنَّ النضرة من أمارات البسط ، والبقاء في حال اللقاء أتم من اللقاء ، والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي … الخ كلامه . { ووجوه يومئذ باسِرة } وهي وجوه أهل الغفلة ، المحجوبين في الدنيا عن شهود الحق ، تظن أن يُفعل بها داهية فاقرة ، لِما فرّطت في جنبه تعالى من عدم التوجه إليه ، كلاَّ ، فلترتدع اليوم ، ولتنهض قبل فوات الإبان ، وهو إذا بلغت الروحُ التراقي ، وقيل : مَن راقٍ ؟ والتفت الساق بالساق ، إلى ربك يومئذ المساق ، فيحصل الندم ، وقد زلّت القدم ، فلا صدّق بوجود الخصوصية عند أربابها ، فيصحبهم ليزول عنه الغين والمرض ، أي : غين الحجاب ومرض الخواطر والشكوك ، ولا صلَّى صلاةَ القلوب ، ولكن كذَّب بوجود الطبيب ، وتولِّى عنه مع ظهوره ، ثم ذهب إلى هواه ودنياه يتمطى ، أَوْلَى لك فأَوْلى ، أي : أبعدك الله وطردك ، ثم أَوْلَى لك فأوْلى ، أيحسب الإنسانُ أن يتركه الحقُ سدىً ، من غير أن يُرسل له داعياً يدعوه إلى الحق ؟ ألم يك نطفة مهينة ، ثم صوَّره ونفخ فيه من روحه ، أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى ؟ أي : القلوب والأرواح الميتة ، بالعلم والمعرفة ، بلى وعزة ربنا إنه لَقادر ، " مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته ، وأن يُخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز القدرة الإلهية ، وكان الله على كل شيء مقتدراً " وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله .