Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { هل أتى على الإِنسان } ، والاستفهام للتقرير والتعريف ، أو بمعنى " قد " ، أي : قد مضى على الإنسان قبل زمانٍ قريبٍ { حِينٌ من الدهر } أي : طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد { لم يكن شيئاً مذكوراً } بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً ، كالعنصر والنطفة وغير ذلك . والجملة المنفية : حال من الإنسان ، أي : مضى عليه زمان غير مذكور ، أو صفة لـ " حين " على حذف العائد ، أي : لم يكن فيه شيئاً ، والمراد بالإنسان : الجنس . والإظهار في قوله : { إِنَّا خلقنا الإنسانَ } لزيادة التقرير ، أو : يراد آدم عليه السلام ، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ، فقد أتى عليه حين من الدهر ، وهو أربعون سنة مصوَّراً قبل نفخ الروح ، وهو ملقى بين مكة والطائف ، وفي رواية الضحاك عنه : أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ، ثم من حمأ مسنون ، فأقام أربعين سنة ، ثم من صلصال ، فأقام أربعين ، ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة . هـ . قلت : جمهور المؤرخين أنَّ آدم صُوِّر في السماء ، ويقال : كان على باب الجنة ، تمر به الملائكة وتتعجب منه ، ويمكن أن يكون صُوّر في الأرض ، ثم رُفع إلى السماء ، القدرة صالحة . والله تعالى أعلم بما كان . وقال بعضهم : المراد بالإنسان الأول : آدم عليه السلام ، وبالثاني : أولاده ، أي : خلقنا نسل الإنسان { من نُطفةٍ أمشاجٍ } أي : أخلاط من : مشجت الشيء : إذا خلطته ومزجته ، وصف به النطفة لأنها مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة ، ولكل منهما أوصاف مختلفة ، من اللون ، والرقّة ، والغلظ ، وخواص متباينة ، فإنَّ ماء الرجل أبيض غليظ ، فيه قوة العصب ، وماء المرأة أصفر رقيق ، فيه قوة الانعقاد ، وتخلّق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فمِن ماء المرأة . قال القرطبي : وقد رُوي هذا مرفوعاً . وقيل : إذا علا ماءُ الرجل أشبهه الولد ، وإذا علا ماء المرأة أشبهها . وقيل : إذا سبق أحدهما فالشبه له . وقيل : " أمشاج " مفرد غير جمع ، كبَرْمة أعشار ، وثوب أخلاق . وقيل : أمشاج : ألوان وأطوار فإنَّ النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة . وقال ابن السكيت : الأمشاج : الأخلاط لأنها ممتزجة من أنواع الأغذية من نبات الأرض ، فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . هـ . { نبتليهِ } حال ، أي : خلقناه مبتلين له ، أي : مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي في المستقبل ، { فجعلناه سميعاً بصيراً } ليتمكن من سماع الآيات التنزيلية ، ومشاهدة الآيات التكوينية ، فهو كالمسبب عن الابتلاء ، فلذلك عطف على الخلق بالفاء ، ورتّب عليه قوله : { إِنَّا هديناه السبيلَ } بيَّنَّا له الطريق ، بإنزال الآيات ، ونصب الأدلة العقلية والسمعية ، { إِمَّا شاكراً وإِمَّا كفوراً } : حال من مفعول { هديناه } ، أي : مكّنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البُغية ، في حالتي الشكر والكفر ، أي : إن شكر أو كفر فقد هديناه السبيل في الحالين ، فإن شكر نفع نفسه ، وإن كفر رجع وبال كفره عليه ، أو : حال من " السبيل " ، أي : عرفناه السبيل ، إمّا سبيلاً شاكراً ، وإمّا سبيلاً كفوراً . ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز ، والمراد : سالكه . الإشارة : قد أتى على الإنسان حين من الدهر ، وهو قبل وقوع التجلِّي به ، لم يكن شيئاً مذكوراً ، بل كان شيئاً معلوماً موجوداً في المعنى دون الحس ، غير مذكور في الحس ، فلمّا وقع به التجلِّي صار شيئاً مذكوراً ، يذكر بالخطاب والتكليف ، ويمكن أن يكون الاستفهام إنكارياً ، أي : هل أتى عليه زمان لم نذكره فيه ، بل لم يأتِ عليه وقت إلاَّ وكان مذكوراً لي . ويُقال : هل غفلتُ ساعة عن حفظك ؟ هل ألقيتُ ساعة حبلك على غاربك ؟ هل أخليتك ساعة من رعاية جديدة ، وحماية مزيدة . هـ . من الحاشية . ثم بيَّن كيفية التجلِّي به فقال : { إنَّا خلقنا الإنسان } أي : بشريته { من نُطفة أمشاج } أي : من نطفة من أخلاط الأرض ، فلذلك كانت تنزع إلى أصلها ، وتخلد إلى أرض الحظوظ والهوى ، نبتليه بذلك ، ليظهر الصادق في طلب الحق بمجاهدة نفسه في إخراجها عن طبعها الأصلى ، والمُعرض عن الطلب باسترساله مع طبعها البشري ، ويقال : خلقته من أمشاج النطفتين فينزع طبعُ الولد إلى الإغلب منهما ، فإن غَلَبَ ماء الرجل نزع إلى طبع أبيه ، خيراً كان أو شرًّا ، وإن غلب ماء المرأة ، نزع إلى طبع أمه كذلك ، ابتلاء من الله وقهرية ، فلا بد أن يغلب الطبع ، ولو جاهد جهده ، ولذلك قال عليه ا لسلام : " إذا سمعتم أنَّ الجبال انتقلت فصَدِّقوا ، وإذا سمعتم أنَّ الطباع انتقلت فلا تُصَدِّقوا " وفائدة الصُحبة والمجاهدة : خمود الطبع وقهر صولته ، لا نزعه بكليته ، فيقع الرجوع إلى الله من الطبع الدنيء ، ولا يقدح في خصوصيته إن رجع إلى الله في الحين ، ولذلك تلونت أحوال الأولياء بعد مجاهدتهم ورياضتهم . والله تعالى أعلم . فجعلناه سميعاً بصيراً ، ونفخنا فيه روحاً سماوية وقدسية ، تحن دائماً إلى أصلها ، فمنها مَن غلبت عليه النطفةُ الطينية ، فأخلدت بها إلى الأرض ، فبقيت مسجونة في هيكلها ، محجوبة عن ربها ، ومنها : مَن غلبت روحانيتها على الطينية ، فعرجت بها إلى الحضرة القدسية ، حتى رجعت إلى أصلها وإلى هذا أشار بقوله : { إنا هديناه السبيل } أي : بيَّنَّا له الطريق الموصل إلى الحضرة ، فصار إمّا شاكراً بسلوكها أو كافراً بالإعراض عنها ، وعدم الدخول تحت تربية العارف بها . ثم ذكر ما أعدَّ للفريقين ، فقال : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ } .