Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 23-31)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلا } أي : مفرّقاً منجماً ، شيئاً فشيئاً ، لحِكَم بالغة مقتضية لتفريقه ، لا غيرنا ، كما يُعرب عنه تكرير الضمير مع " إن " ، فهو تأكيد لاسم إن ، أو : ضمير فصل لا محل له { فاصبر لِحُكم ربك } في تأخير نصرك ، فإنّ له عاقبة حميدة ، أو : اصبر لتبليغ الرسالة ، وتحمل الأذى فإن العاقبة لك ، { ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كفوراً } أي : لا تُطع الآثم في إثمه ، ولا الكافر في كفره ، أي : لا تُطع كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه ، أو من الغَالي في الكفر الداعي إليه ، و " أو " للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به ، باعتبار ما يدعون إليه ، فإنَّ ترتيب الوصف على الوصفين مشعر بعليتهما ، فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر ، لا فيما ليس بإثم ولا كفر . وقيل : الآثم : عُتبة ، فإنه كان ركّاباً متعاطياً لأنواع الفسوق ، والكفور : الوليد ، فإنه كان غالياً في الكفر شديد الشكيمة في العتو . والظاهر : أنّ المراد كل آثم وكافر ، اي : لا تُطع أحدهما ، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه ، فقد نهى عن طاعتهما معاً ، ولو كان بالواو لجاز أن يُطيع أحدهما لأن الواو للجمع ، فيكون منهياً عن طاعتهما ، لا عن طاعة أحدهما . { واذكر اسمَ ربك بُكرةً وأصيلا } اي : دُم على ذكره في جميع الأوقات . وتخصيص الوقتين لشرفهما . قيل : لمّا نهى حبيبه عن طاعة الآثم والكفور ، وحَثه على الصبر على آذاهم وإفراطهم في العداوة عقّب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته في ذكره وعبادته ، فهو كقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَكَ يَضِيقُ صَدْرَكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ … } [ الحجر : 97 ، 98 ] الآية ، وفي إقباله راحة له من وحشته لجهلهم بأنسه بربه ، وقرّة عينه به . وفي ذلك أمُره بالإفراد لربه بطاعته ، دون مَن يدعوه ، لخلاف ذلك من ألإثم والكفور . هـ . من الحاشية . أو : بكرة : صلاة الفجر ، وأصيلاً : الظهر والعصر ، { ومن الليل فاسجدْ له } وبعض الليل فصلِّ صلاة العشاءين ، { وسبِّحه ليلاً طويلاً } أي : تهجّد له قِطْعاً من الليل طويلاً ثلثه أو نصفه أو ثلثيه . وتقديم الظرف في مِن الليل لِما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص . { إِنّ هؤلاء } الكفرة { يُحبون العاجلةَ } وينهمكون في لذاتها الفانية ، ويؤثرونها على الآخرة ، فلا يلتفتون إلى ذكرٍ ولا صلاة ، { ويذرون وراءهم } قدّامهم ، فلا يستعدُّون له ، أو : ينبذونه وراء ظهورهم ، { يوماً ثقيلاً } شديداً لا يعبؤون به ، وهو يوم القيامة لأنّ شدائده تثقل على الكفار . ووصفه بالثقل لتشبيه شدته وهوله بثقل شيء فادح ، وهو كالتعليل لِما أمر به ونَهَى عنه . { نحن خلقناهم } لا غيرنا ، { وشَدَدْنا أسْرَهُم } أي : قوّينا خِلقتهم حتى صاروا أقوياء يُقال : رجل حسن الأسر : الخلق ، وفرس شديد الأسر ، أي : الخلقة ، ومنه قوله لبيد : @ ساهِمُ الوجه شديدٌ أسْرُهُ مُشرِفُ الحاركِ محبوكُ الكَتَدْ @@ أو : أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب ، أو : أخذنا ميثاقهم على الإقرار ، { وإِذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلاً } أي : إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع ولا يعصي . أو : بدلنا أمثالهم تبديلاً بديعاً لا ريب فيه ، وهو البعث كما ينبىء عنه كلمة إذا لدلالتها على تحقُّق القدرة وقوة الداعية . { إِنَّ هذه تَذْكِرةُ } ، الإشارة إلى السورة ، أو الآيات القريبة أي : هذه موعظة بليغة ، { فمَن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلاً } بالتقرُّب إليه بالطاعة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ، { وما تشاؤون } اتخاذَ السبيل إلى الله ، أو : مايشاء الكفرة { إِلاّ أن يشاء الله } ، وهو تحقيق للحق ، ببيان أنَّ مجرد مشيئَتهم غير كافية في اتخاذ السبيل ، ولا يقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات ، إلاَّ وقت مشيئته في تحصيله لهم ، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلاّ في الكسب ، وإنما التأثير لمشيئة الله تعالى ، { إِنَّ الله كان عليماً حكيماً } عليماً بما يكون منهم من الأحوال ، حكيماً مصيباً في الأقوال والأفعال ، وهو بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة ، أي : هو تعالى مبالغ في العلم والحكمة ، فيعلم ما يستأهله كل أحد ، فلا يشاء لهم إلاّ ما يستدعيه علمه وتقضيه حكمته . وقوله تعالى : { يُدخل من يشاء في رحمته } ، بيان لأحكام مشيئته ، المترتبة على علمه وحكمته ، أي : يُدخل في رحمته مَن يشاء أن يدخله فيها ، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ سبيل الله تعالى ، حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة . { والظالمين } وهم الذين صرفوا مشيئَتهم إلى خلاف ما ذكر { أعدَّ لهم عذاباً أليماً } متناهياً في الإيلام ، و " الظالمين " منصوب بمضمر يُفسره معنى ما بعده ، أي : أهان الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً . الإشارة : إنّا أنزلنا عليك أيها الخليفة القرآن ، أي : الجمع على ربك في قلبك وسرك تنزيلاً مترتباً شيئاً فشيئاً على حسب التهذيب والتدريب ، فاصبرْ لحُكم ربك ، أي : ما حَكَم به عليك من قهرية الجلال ، وارتكاب الأهوال ، ومقاسات الأحوال ، فإنَّ العاقبةَ شهودُ الكبير المتعالي ، وبذلُ المُهج والأرواح قليل في حقه ، ولا تُطع في حال سيرك آثماً يريد أن يميلك عن قصد السبيل ، أو كفوراً بطريق الخصوص يريد أن يصرفك عنها ، واذكر اسم ربك ، أي : استغرق أنفاسك في ذكر اسمه الأعظم ، وهو الاسم المفرد الله الله ، فتكثر منه بكرة وأصيلاً ، وآناء الليل والنهار ومن الليل فاسجدْ له وسبَّحه ليلاً طويلاً ، أي : ومن أجل ليل القطيعة اخضع وتضرَّع وسَبِّح في الأسحار ، خوفاً من أن يقطعك عنه ، فيظلم عليك ليل وجودك ، فتحجب به عن ربك إنَّ هؤلاء المحجوبين بوجودهم وحظوظِ نفوسهم ، يُحبون العاجلة ، فيؤثرون هواهم على محبة مولاهم ، ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ، يوم يُساق أهل التخفيف من المريدين إلى مقعد صدق زُمراً ، ويتخلّف أهل النفوس في موقف الحساب . إنَّ هذه تذكرة لمَن فتحت بصيرته وأبصر الحق وأهله ، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً ، بإيثار صحبته أهل الحق والتحقيق ، حتى يردون به حضرة التحقُّق ، لكن الأمر كله بيد الله ، وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله ، فمَن شاء عنايته أدخله في رحمة هدايته ، ومَن شاء خذلانه سلك به مسلك الضلالة ، والعياذ بالله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .