Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 19-22)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ويطوفُ عليه ولدان } أي : غلمان ينشئهم اللهُ لخدمة المؤمنين . أو : ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة . { مخلَّدون } لا يموتون ، أو : دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء ، { إِذا رأيتهم حَسِبْتَهُم لؤلؤاً منثوراً } لحُسْنهم ، وصفاء ألوانهم ، وإشراق وجوههم ، وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلهم . وتخصيص المنثور لأنه أزين في المنظر من المنظوم . { وإِذا رأيتَ ثَمَّ } أي : وإذا وقعت منك رؤية هناك ، فـ " رأيت " هنا : لازم ، ليس له مفعول لا ملفوظ ولا مُقدّر ، بل معناه : أنَّ بصرك أينما وقع في الجنة { رأيتَ نعيماً } عظيماً { ومُلكاً كبيراً } أي : هنيئاً واسعاً . وفي الحديث : " أَدْنَى أهل الجنةِ منزلاً مَن ينظرُ في مُلكه مَسيرة ألف عام ، ويَرَى أقصاهُ كما يرى أدناه " ، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أدنى أهل الجنة منزلاً الذي يركبُ في ألف ألف من خَدَمه من الولدان ، على خيل من ياقوت أحمر ، لها أجنحة من ذهب " ، ثم قرأ عليه السلام : { وإذا رأيت ثَمَّ … } إلخ . وقيل : مُلكاً لا يعقبه زوال ، وقال الترمذي : مُلك التكوين ، إذا أرادوا شيئاً كان هـ . وقيل : تستأذن عليهم الملائكة استئذان الملوك . رُوي : إنَّ الملائكة تأتيهم بالتُحف ، فتستأذن عليهم ، حاجباً بعد حاجب ، حتى يأذن لهم الآخر ، فيدخلون عليهم من كل باب بالتُحف والتحية والتهنئة . هـ . ثم وصف لباس أهل الجنة فقال : { عَالِيَهُم ثِيَابُ سُندُسٍ } فمَن نصبه جعله حالاً من الضمير في " يطوف عليهم " أي : يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثيابُ سندس ، ومَن قرأه بالسكون فمبتدأ ، و " ثياب " خبر ، أي : الذي يعلوهم من لباسهم ثياب سندس ، وهو رقيق الديباج ، { خُضْرٌ } جمع أخضر ، { وإِستَبرقٌ } غليظ الديباج ، فمَن رفعهما حملهما على الثياب ، ومَن جَرَّهما فعلى سندس . { وحُلُّوا أساوِرَ من فضةٍ } وفي سورة الملائكة : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } [ فاطر : 33 ] ، والجمع بينهما : بأنه يجمع في التحلية بينهما . قال ابن المسيب : لا أحدٌ من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسْوِرة ، واحد من فضة ، وآخر من ذهب ، وآخر من لؤلؤ أو : يختلف ذلك باختلاف الأعمال ، فبعضهم يُحلّى بالفضة ، وبعضهم بالذهب ، وبعضهم باللؤلؤ . { وسقاهم ربُّهم } ، أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص ، وقيل : إنَّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب ، فيأبون قبولَه منهم ويقولون : قد طال أخْذُنا مِن الوسائط ، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواههم بغير أكفٍّ من غيبٍ إلى عَبْدٍ . هـ . قلت : ولعل هؤلاء كانوا محجوبين في الدنيا ، وأمّا العارفون فالوسائط محذوفة في نظرهم مع وجودنا . فيسقيهم { شراباً طهوراً } أي : ليس برجْسٍ كخمر الدنيا ، لأنَّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل ، أو : لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضِرة ، وتدوسه الأرجل الوسخة ، والوضر : الوسخ . قال البيضاوي : يريد به نوعاً آخر ، يفوق النوعين المتقدمين ، ولذلك أسند سقيه إلى الله ، ووصفه بالطهورية ، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية ، والركون إلى ما سوى الحق ، فيتجرّد لمطالعة جماله ، ملتذًّا بلقائه ، باقياً ببقائه ، وهو منتهى درجات الصدِّيقين ، ولذلك خُتِم به ثواب الأبرار . هـ . ويُقال لأهل الجنة : { إِنَّ هذا } أي : الذي ذكر من فنون الكرامات { كان لكم جزاء } في مقابلة أعمالكم الحسنة ، { وكان سعيُكم مشكوراً } مرضياً مقبولاً عندنا ، حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير : لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً . الإشارة : ويطوف على قلوبهم وأسرارهم جواهر العلوم ، ويواقيت الحِكَم كأنها اللآلىء المنثورة ، وإذا رأيتَ ثَمَّ إذا جالت فكرتك ، وعامت في بحار الأحدية ، رأيت ببصيرتك نعيماً من نعيم الأرواح ، وهي لذة الشهود والفرح برؤية الملك الودود ومُلكاً كبيراً ، وهي عظمة الذات الأولية والآخرية ، والظاهرة والباطنة . وإذا رأيتَ ذلك كان الوجود كله تابعاً لك ، ينبسط ببسطك ، وينقبض بقبضك وحكمه حكمك ، وأمره عند أمرك ، تتصرف بهمتك على وفق إرادة مولاك ، عاليَهم ثياب العز والبهاء ، وثياب الهيبة والجلال وحُلُّوا أساورَ من مقامات اليقين ، وسقاهم ربُّهم شراباً طهوراً ، وهو شراب الخمرة ، فإنها تطهر القلوب والأسرار من البقايا والأكدار . وقال القشيري : ويقال : يُطهرهم من محبة الأغيار ، ويقال : من الغل والغِشِّ والدعوى . ثم قال ويقال : مَن سقاه اليوم شرابَ محبَّتِه لا يستوحِش في وقته من شيء ، ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كل أحدٍ بالكونين من غير تمييز ، لا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار ، ومَن آثر شربه بذل كله لكل أحدٍ لأجل محبوبه فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم ، لا يتحرك فيه للتكبُّر عرقٌ ، وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضاً في بعض الأحيان أن يَتِيه على أهل الدارين ، وأن يَمْلِكَه سرورٌ ، ولا يَتَمَالَكُ معه عن خَلْع العذارِ ، وإلقاء قناع الحياء وإظهار ما به من المواجيد . ومن موجبات ذلك السُكْر : سقوطَ الحشمة ، فيتكلم بمقتضى البسط ، أو بموجب لطف السكون بما لا يستخرج منه في حال صَحْوه شُبهة بالمناقيش ، ، وعلى هذا قول موسى : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] قالوا : سَكِرَ مِن سماع كلامه ، فَنَطَقَ بذلك لسانُه ، وأمّا حين يسقيهم شرابَ التوحيد فينتفي عنهم شهود كلِّ غَيْرٍ ، فيهيمون في أودية العِزِّ ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء ، وتتلاشى جملتُهم في هوى الفردانية ، فلا عقلَ ولا تمييز ، ولا فهمَ ولا إدراك . والعبد يكون في ابتداء الكشفِ مستوعباً ، ثم يصير مستغرقاً ، ثم يصير مُسْتَهلَكاً { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [ النجم : 42 ] . هـ . وقال الورتجبي : فتلك الكائنات المروقات عن علل الحجاب والعتاب دارت عليها في الدنيا حتى ترجع إلى معادنها من الغيب . ثم قال : فإذا شَرِبوا تلين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، سقاهم ذلك في الدنيا ، في ميدان ذكره ، بكأس محبته ، على منابر أُنسه بمخاطبة الإيمان ، وسقاهم في الآخرة ، في ميدان قربه ، بكأس رؤيته ، على منابر مِن نورٍ بمخاطبة العيان . هـ . قلت : تفريقه بين الدنيا والآخرة غير لائق بمقام المحقِّقين من العارفين ، فالعارف لم تبقَ له دنيا ولا آخرة ، لم يبقَ له إلاّ الله ، تتلوّن تجلياته فما هناك هو حاصل اليوم ، لولا تكثيف الحجاب . ثم يُقال لأهل التمكين : إنَّ هذا كان لكم جزاء على مجاهدتكم وصبركم ، وكان سعيكم مشكوراً ، وحضكم منه موفوراً . وبالله التوفيق . ولمَّا ذكر أصل نشأة الإنسان ، وقسّمه إلى قسمين ، كفوراً وشكوراً ، وأمعن فيما أعدّه للطائع ، ذكر ما شرّف به نبيه وحبيبه ، فقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } .