Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 78, Ayat: 17-30)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ يومَ الفَصْلِ } بين الخلائق ، فيتميز المحسن من المسيء ، والمحقّ من المبطل ، { كان } في علم الله تعالى وتقديره { ميقاتاً } وقتاً محدوداً ومُنتهى معلوماً لوقوع الجزاء أو : ميعاداً لجمع الأولين والآخرين ، وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً ، لا يكاد يتخطاه بالتقدُّم ولا بالتأخُّر ، وهو { يوم ينفخ في الصور } نفخة ثانية ، فـ " يوم " بدل من " يوم الفصل " ، أو عطف بيان له ، مفيد لزيادة تخفيمه وتهويله في تأخير الفصل ، فإنه زمان ممتد ، في مبدئه النفحة ، وفي بقيته الفصل وآثاره . والصُور : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل . عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لمّا خلق الله السموات والأرض خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضع له على فيه ، شاخص ببصره إلى العرش ، حتى يؤمر بالنفخ فيه ، فيؤمر به ، فينفخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياة غير ما شاء الله ، وذلك قوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّماواتِ … } [ الزمر : 68 ] الآية ، ثم يؤمر بأخرى ، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلاَّ بُعث وقام ، وذلك قوله تعالى : { ثُمََّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] . " والفاء في قوله تعالى : { فتأتون } فصيحة تفصح عن جملة حُذفت ثقةً بدلالة الحال عليها ، وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان ، كما في قوله تعالى : { أّنِ ٱضْرِب بِّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَـٱنفَلَقَ } [ الشعراء : 63 ] أي : فتبعثون من قبوركم فـتأتون عقب ذلك من غير لبث { أفواجاً } جماعات مختلفة الأحوال ، متباينة ، الأوضاع ، حسب اختلاف أعمالكم وتباينها ، مِن راكب ، وطائر ، وماش خفيف وثقيل ، ومكب على وجهه وغير ذلك من الأحوال العظيمة ، أو : أمماً ، كل أمة مع رسولها ، كما في قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُناَسِ بِإِمَامِهْم } [ الكهف : 47 ] . { وفُتِحت السماءُ } أي : تشققت لنزول الملائكة ، وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه ، { فكانت أبواباً } فصارت ذات أبواب وطرق وفروج وما لها اليومَ من فُروج . { وسُيْرت الجبالُ } في الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها ، { فكانت سَرَاباً } هباءً ، تخيل الشمس أنها سراب ، وهَل هذا التسيير قبل البعث فلا يقع إلاَّ على أرض قاع صفصف ، وهو ما تقتضيه ظواهر الآيات ، كقوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ } [ الكهف : 47 ] وقوله : { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [ الحاقة : 14 ، 15 ] والفاء تقتضي الترتيب ، أو لا يقع إلاّ بعد البعث ، وهو ظاهر الآية هنا وسورة القارعة . وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود ، قال : يُبدل اللهُ الأرض ويُغيّر هيئاتها ، ويُسَيّر الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها . هـ . والله أعلم بحقيقة الأمر . ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله ، وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً ، فقال : { إنَّ جهنم كانت مِرْصَاداً } أي : موضع الرصد ، وهو الارتقاب والانتظار ، أي : تنتظر الكفار وترتقبهم ليدخلوا فيها ، أو طريقاً يمر عليه الخلق ، فالمؤمن يمر عليها ، والكافر يقع فيها ، أي : كانت في علم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفارَ ليعذبوهم فيها ، { للطاغين مآباً } : نعت لمرصاد ، أي : كائناً للطاغين مرجعاً يرجعون إليه لا محالة ، { لابثين فيها } ، ماكثين فيها ، وهو حال مُقدَّرة من المستكن في الطاغين . وقرأ حمزة لبثين ، وهو أبلغ من " لابثين " لأنَّ اللابث مَن يقع منه مطلق اللَّبْث ، واللَّبِث مَن شأنه اللبث والمقام ، و { أحقاباً } : طرف للبثهم ، جمع حُقب ، كقُفْل وأقفال ، وهو الدهر ، ولم يرد به عدداً محصوراً ، بل كلما مضى حُقب تبعه حقب ، إلى غير نهاية ، ولا يستعمل الحُقب إلاّ حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها . وقيل : الحقب ثمانون سنة ، ورُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه ثلاثون ألف سنة . وقال الحسن : ليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود . { لا يَذُوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً } : حال من ضمير " لابثين " أي : غير ذائقين فيها { برداً } أي : نسيماً بارداً ، بل لهباً حاراً ، { ولا شراباً } بارداً ، { إلاَّ حميماً } ماءً حاراً ، استثناء منقطع ، أي : لا يذوقون في جهنم ، أو في الأحقاب ، برداً ، ولا ينفس عنهم غم حر النهار ، أو : نوماً ، فإنَّ النوم يطلق عليه البرد ، لأنه يبرد سَوْرة العطش ولا شراباً يُسكن عطشهم ، لكن يذوقون فيها ماءً حاراً ، يحرق ما يأتي عليه ، { وغسَّاقاً } أي : صديداً يسيل من أجسادهم . وفي القاموس : وغَساق كسَحاب وشدّاد : البادرُ المنتن . وقال الهروي عن الليث : وغساقاً أي : مُنتناً ، ودلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " لو أنَّ دلواً من غساق يُهرَاقُ في الدنيا ، لأنتَنَ أهلُ الدنيا " ، وقيل : ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم ، يقال : غسقت عينه تغْسَق ، إذا سالت . ثم قال : ومَن قرأ بالتخفيف ، فهو البارد الذي يُحرق ببرده . هـ . { جزاءً وِفاقاً } أي : جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم الخبيثة ، مصدر بمعنى الصفة ، أو : ذا وفاق . { إِنهم كانوا لا يرجون حِساباً } أي : لا يخافون محاسبة الله إياهم ، أو : لا يؤمنون بالبعث فيرجعوا حسابه ، { وكذّبوا بآياتنا } الناطقة بذلك { كِذَّاباً } أي : تكذيباً مفرطاً ، ولذلك كانوا مصرِّين على الكفر وفنون المعاصي . و " فعّال " في باب فعّل فاش . { وكلَّ شيءٍ } من الأشياء ، ومِن جملتها أعمالهم الخبيثة ، { أحصيناه } أي : حفظناه وضبطناه { كِتاباً } ، مصدر مؤكد لأحصينا لأنَّ الإحصاء والكتابة من وادٍ واحد ، أو : حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ أو في صحف الحفظة ، والجملة اعتراض ، وقولة تعالى : { فذُوقوا فلن نزيدكم إِلاَّ عذاباً } مسبب عن كفرهم بالحساب ، وتكذيبهم بالآيات ، أي : فذوقوا جزاء تكذيبكم والالتفات شاهد على شدّة الغضب . روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ هذه الآية أشدُّ ما في القرآن على أهل النار " . الإشارة : إنَّ يوم الفصل بين العمومية والخصوصية ، أو تقول : بين الانتقال من مقام أهل اليمين إلى مقام المقربين ، كان في علم الله ميقاتاً ، أي : مؤقتاً ، وهو يوم انتقاله من شهود الأكوان إلى شهود المكوِّن ، أو من مقام البرهان إلى مقام العيان . يوم يُنفخ في صور الأرواح التي سبقت لها العناية ، فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج ، فتأتون إلى حضرة القدس ، تسيرون إليها على يد الخبير أفواجاً ، وفُتحت سماء الأرواح ليقع العروج إليها من تلك الأرواح السائرة ، فكانت أبواباً ، وسُيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق ، فكانت سراباً ، فلا يبقى من نور العقل إِلاّ ما يميز به بين الحس والمعنى ، وبين الشريعة والحقيقة . إنَّ جهنم البُعد كانت مِرصاداً ، للطاغين المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير ، الباقين مع عامة أهل اليمين ، مآباً لا يبرحون عنها ، لابثين فيها أحقاباً مدة عمرهم وما بعد موتهم ، لا يذوقون فيها برد الرضا ، ولا شراب نسيم التسليم ، إلاَّ حميماً : حر التدبير والاختيار ، وغساقاً : نتن حب الدنيا وهمومها ، جزاءً موافقاً لميلهم إلى الحظوظ والهوى ، إنهم كانوا لا يرجون حِساباً ، فلم يحاسبوا نفوسهم ، ولا التفتوا إلى إخلاصها ، وكذّبوا بأهل الخصوصية ، وهم الأولياء الدالون على الله ، ثم يقال لهم : ذّوقوا وبال القطيعة ، فلن نزيدكم إلاّ تعباً وحرصاً وجزعاً . عائذاً بالله من سوء القضاء ، وشماتة الأعداء . ثم شفع بضدهم ، فقال : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } .