Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 78, Ayat: 31-40)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ للمتقين مفازاً } أي : فوزاً ونجاة من كل مكروه ، وظفراً بكل محبوب ، وهو مَفْعَلٌ من الفوز ، يصلح أن يكون مصدراً ومكاناً ، وهو الجنة ، ثم أبدل البعض من الكل ، فقال : { حدائقَ } بساتين فيها أنواع الشجر المثمر ، جمع حديقة وأبدل من المفرد ، لأنَّ المصدر لا يجمع بل يصلح للقليل والكثير ، { وأعناباً } ، كرر لشرفه ، لأنه يخرج منه أصناف مِن النِعم ، { وكواعبَ } نساء نواهِد ، وهي مَن لم تسقط ثديها لصغرٍ ، { أتراباً } أي : لَدَاتٍ مستوياتٍ في السنّ ، { وكأساً دِهاقاً } مملوءة . { لا يسمعون فيها } في الجنة ، حال من ضمير خبر " إن " ، { لَغْواً } باطلاً ، { ولا كِذَّاباً } أي : لا يكذّب بعضهم بعضاً ، وقرأ الكسائي بالتخفيف من المكاذبة ، أي : لا يُكاذبه أحد ، { جزاءً من ربك } : مصدر مؤكد منصوب بمعنى : إنَّ للمتقين مفازاً ، فإنه في قوة أن يقال : جازى المتقين بمفاز جزاء كائناً من ربك . والتعرُّض لعنوان الربوبية ، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام ، { عَطاءً } أي : تفضُّلاً منه تعالى وإحساناً ، إذ لا يجب عليه شيء ، وهو بدل مِن " جزاء " ، { حِساباً } أي : مُحسِباً ، أي : كافياً ، على أنه مصدر أقيم مقام الوصف ، أو بولغ فيه ، من : أحسبه إذا كفاه حتى قال حسبي أو : على حسب أعمالهم . { ربِّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما } بدل من " ربك " { الرحمن } : صفة له أو للأول فمَن جَرَّهما فبدل من " ربك " . ومَن رفعهما فـ " رب " خبر متبدأ محذوف ، أو متبدأ خبره " الرحمن " ، أو " الرحمن " صفة ، و " لا يملكون " خبر ، أو هما خبران ، وأيًّا ما كان ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور ، { لا يملكون } أي : أهل السماوات والأرض { منه خِطاباً } معذرة أو شفاعة أو غيرهما إلاَّ بإذنه ، وهو استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة ، من غاية العظمة والكبرياء ، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء ، من غير أن يكون لأحد قدرة عليه ، والتنكير في للتقليل والنوعية . قال القشيري : كيف يكون للمكوَّن المخلوق المسكين مُكْنةٌ أن يملك منه خِطاباً ، أو يتنفَّسَ بدونه نفساً ؟ كلاَّ ، بل هو الله الواحدُ الجبّار . ثم قال : إنما تظهر الهيبةُ على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم . وأمّا الخصوص فهم أبداً بمشهدِ العز بنعت الهيبة . هـ . { يومَ يقومَ الرُّوحُ } جبريل عليه السلام عند الجمهور ، وقيل : مَلكٌ عظيم ، ما خلق الله تعالى بعد العرش أعظم منه ، يكون وحده صفًّا ، { والملائكةُ صفاً } : حال ، أي : مصطفين { لا يتكلمون } أي : الخلائق خوفاً ، { إِلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ } في الكلام أو الشفاعة ، { وقال صَواباً } أي : حقًّا . قال الطيبي عن الإمام : فإن قيل : لَمَّا أذن له الرحمن في التكلم عَلِمَ أنه حق وصواب ، فما الفائدة في قوله : { وقا صواباً } ؟ فالجواب من وجهين ، أحدهما : أنَّ التقدير : لا ينطقون إلاَّ بعد ورود الإذن والصواب ، ثم يجتهدون في ألاَّ ينطقوا إلاَّ بالحق والصواب ، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة . وثانيهما : أنَّ التقدير : لا يتكلمون إلاَّ في محضر إذن الرحمن في شفاعته والمشفوع له ممن قال صواباً ، وهو قول لا إله إلاّ الله . هـ . قلت : والمعنى : أن يُراد بالصواب : استعمال الأدب في الخطاب ، بمراعاة التعظيم ، كما هو شأن الكلام مع الملوك . ثم قال تعالى : { ذلك اليومُ الحق } أي : الثابت المحقَّق لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه . والإشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور ، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار أليه للإيذان بعلو درجته ، وبُعد منزلته في الهول والفخامة . وهو مبتدأ ، و " اليوم " خبره ، أي : ذلك اليوم العظيم الذي يقوم الروح والملائكة مصطفين ، غير قادرين على التكلم عنهم ولا عن غيرهم من الهيبة والجلال ، هو اليوم الحق ، { فمَن شاء اتخذ إَلى ربه مآباً } مرجعاً بالعمل الصالح . والفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف ، أي : إذا كان الأمر كذلك من تحقُّق اليوم المذكور لا محالة ، فمَن شاء أن يتخذ إلى ربه مرجعاً ، أي : إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم ، فليفعل ذلك بالإيمان والطاعة ، و " إلى ربه " يتعلق بـ " مآب " قُدّم اهتماماً وللفواصل . { إِنَّا أنذرناكم } بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث وما بعده من الدواعي ، أو بسائر القوارع الواردة في القرآن ، أي : خوفناكم { عذاباً قريباً } هو عذاب الآخرة ، وقُربه لتحقُّق وقوعه ، وكل آتٍ قريب ، { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وعن قتادة هو قتل قريش يوم بدر ويأباه قوله تعالى : { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } فإنه بدل من " عذاب " أو ظرف لمُضمر هو صفة له ، أي : عذاباً كائناً يوم ينظر المرء ، أي : يُشاهد ما قدَّمه من خير وشر . و " ما " موصولة ، والعائد محذوف ، أو استفهامية ، أي : ينظر الذي قدمته يداه ، أو : أي شيء قدمت يداه وقيل : المراد بالمرء : الكافر . وقوله : { ويقول الكافرُ يا ليتني كنتُ تراباً } ، وضع الظاهرَ موضع الضمير ، لزيادة الذّم ، أي : يا ليتني كنتُ تراباً لم أُخلق ولم أُكلّف أو : ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أُبعث . وقيل : يحشر اللّهُ تعالى الحيوان حتى يقتص للجماء من القرناء ، ثم يرده تراباً ، فيود الكافرُ أن يكون تراباً مثله ، وقيل : الكافر : إبليس يرى آدم وولده وثوابهم ، فيتمنى أن يكون من الشيء الذي احتقره حين قال : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 12 و صۤ : 76 ] . قال الطيبي : والعموم في المرء هو الذي يساعده النظم . ثم قال عن الإمام : فإن قلتَ : لِمَ خصّ بعد العموم قول الكافر دون المؤمن ؟ قلت : دلّ قول الكافر على غاية التحسُّر ، ودلّ حذف قول المؤمن على غاية التبجُّح ونهاية الفرح بما لا يَحصُره الوصف . هـ . قال المحشي : والظاهر أنه اقتصر على قول الكافر بعد العموم في المرء ، لأنه المناسب للنذارة التي اقتضاها المقام . هـ . قلتُ : ولو ذكر قول المؤمن لقال : ويقول المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيه ، تبجُّحاً وفرحاً . والله تعالى أعلم . الإشارة : إنَّ للمتقين الله حق تقاته مفازاً ، وهو التخلُّص من رؤية الأكوان ، والإفضاء إلى رؤية الشهود والعيان ، وهو دخول حدائق العرفان ، واقتطاف ثمار الوجدان ، ونكاح أبكار الحقائق ، وهنّ أتراب ، لاستوائها غالباً في لذة الشهود لمَن تمكن منها . ويشربون كأس الخمرة الأزلية ، لا يسمعون في حضرة القدس لغواً ولا كِذاباً ، لغاية أدبهم ، جزاء من ربك على مكابدتهم في أيام سيرهم ، عطاءً كافياً مغنياً من الرحمن ، لا يملكون منه خِطاباً ، لغاية هيبتهم ، وهذا لقوم أقامهم مقام الهيبة ، وثَمَّ آخرون أقامهم مقام البسط والإدلال ، وهم المتمكنون في معرفته ، ينبسطون معه ، ويشفعون في عباده في الدارين . قال الورتجبي : مَن كان كلامه في الدنيا من حيث الكشف والمعاينة ، فهو مأذون في الدنيا والآخرة ، يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة ، يُنقذ الله به الخلائق من ورطة الهلاك . هـ . يوم يقوم الروح ، أي : جنس الروح ، وهي الأرواح الصافية ، التي التحقت بالملائكة ، فتقوم معهم صفاً في مقام العبودية التي شرفت بها ، لا يتكلمون هيبةً لمقام الحضرة ، إلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ في الشفاعة ، على قدر مقامه ، وقال صواباً ، أي : استعمل الأدب في مخاطبته فإذا استعمل الأدب شفع ، ولو قصر مقامه عن عدد المشفوع فيه . حُكي أنّ بعض الأولياء قال عند موته : يا رب شفِّعني في أهل زماني ، فقال له الهاتف من قِبل الله تعالى : لم يبلغ مقامك هذا ، فقال : يا رب إذا كان ذلك بعملي واجتهادي فلعَمري إنه لم يبلغ ذلك ، وإذا كان ذلك بكرمك وَجُودك ، فهو أعظم من ذلك ، فشَفَّعه الحقُّ تعالى في الوجود . هكذا سمعتُ الحكاية من شيخنا الفقيه العالم ، سيدي " التاودي بن سودة " رحمه الله ، فحُسن خطاب هذا الرجل بلّغه ما لم يبلغه قدره . ذلك اليوم الحق ، تحِق فيه الحقائق ، وتبطل فيه الدعاوى ويفتضح أهلها ، فمَن شاء اتخذ إلى ربه مآباً ، يرجع به إلى ربه ، وهو حُسن التوجه إليه ، برفض كل ما سواه . { إنَّا أنذرناكم عذاباً قريباً } قال القشيري : أي : عذاب الالتفات إلى النفس والدنيا والهوى ، يوم ينظر المرءُ ما قدَّمت يداه من الإساءة والإحسان هـ . ويقول الكافر الجاحد لطريق الخصوصية ، حتى مات محجوباً : يا ليتني كنتُ تُراباً ، تحسُّراً على ما قاته من مقام المقربين . وبالله التوفيق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .