Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 79, Ayat: 1-14)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فإنَّ جواب القسم : لتُبعثن ثم لتعذِّبن . يقول الحق جلّ جلاله : { والنازعاتِ } أي : والملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها ، كما قال ابن عباس أو أرواح الكفرة ، كما قاله هو أيضاً وابن مسعود ، { غَرْقاً } أي : إغراقاً ، من : أَغرق في الشيء : بالغ فيه غايةً ، فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد . قال ابن مسعود : تنزع روح الكافر مِن جسده من تحت كل شعرة ، ومِن تحت الأظافر ، ومن أصول القدمين ، ثم تفرقها في جسده ، ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده ، فهذا عملها بالكفار دون المؤمنين . أو : تُغرقها في جهنم ، فهو مصدر مؤكد . { والناشطاتِ نشطاً } أي : ينشطونها ويخرجونها من الجسد من : نَشط الدلو من البئر : أخرجها . { والسابحاتِ سَبْحاً } أي : يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى . شبّه سرعة سيرهم بسبح الهوام ، أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج ، { فالسابقاتِ سبقًا } فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، { فالمُدبراتِ أَمْراً } تُدبر أمر عقَابها وثوابها ، بأن تهيئها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام والثواب ، أو السابحات التي تسبح في مضيها ، فتسبق إلى ما أمروا به ، فتدبر أمراً من أمور العباد ، مما يصلحهم في دينهم ودنياهم كما رُسم لهم . أو : يكون تعالى أَقْسَم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب ، غرقاً في النزع ، بأن تقطع الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب ، وتنشط من برج إلى برج ، أي : تخرج ، من : نَشط الثور : إذا خرج من بلد إلى بلد ، وتَسْبح في الفلك فتسبق بعضها بعضاً فتُدبر أمراً نِيط بها ، كاختلاف الفصول ، وتقدير الأزمنة ، وتدبير مواقيت العبادة ، وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية أي : قهرية - وحركاتها من برج إلى برج ملائمةً عبَّر عن الأولى بالنزع ، وعن الثانية بالنشط . أو : بأنفس الغُزاة ، أو : بأيديهم التي تنزع القِسي ، بإغراق السهام ، وينشطون بالسهم إلى الرمي ، ويَسْبحون في البر والبحر ، فيسبقون إلى حرب العدو ، فيُدبرون أمرها ، أو : بصفات خيلهم ، فإنها تنزع في أعنّتها نزعاً تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها ، لأنها عراب ، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب ، وتَسْبح في جريها ، فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر والغلبة . وسيأتي في الإشارة أحسن هذه الأقوال إن شاء الله . وانتصاب " نشطاً " و " سَبْحاً " و " سبقاً " على المصدرية ، وأما " أمراً " فمفعول به ، وتنكيره للتهويل والتفخيم . والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي للإشعار بأنَّ كل واحدٍ من الأوصاف المعدودة من معظّمات الأمور ، حقيق بأن يكون حياله مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام من غير انضمام أوصاف الآخر إليه . والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتيبهما على ما قبلهما بلا مهلة . والمقسم عليه محذوف ، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ، ودلالة ما بعد من أحوال القيامة عليه ، فإنَّ الإقسام بمَن يتولى نزع الأرواح ، ويقوم بتدبيرها ، يلُوح بكون المقسم عليه مِن قبل تلك الأمور لا محالة ، ففيه من الجزالة ما لا يخفى . أي : لتُبعثن { يومَ ترجُفُ الراجِفةُ } ، فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف . والرجف : شدة الحركة . والراجفة : النفخة الأولى ، وُصفت بما حدث عندها لأنها تضطرب لها الأرض حتى يموت مَن عليها ، وتزلزل الجبال وتندك الأرض دكاً ثم { تتبعها الرادِفةُ } النفخة الثانية ، لأنها تردف الأولى ، وبينهما أربعون سنة ، والأولى تُميت الخلق والثانية تُحْييهم . { قلوبٌ يومئذٍ } ، وهي قلوب منكري البعث ، { واجفةٌ } مضطربة ، من : الوجيف ، وهو الاضطراب ، { أبصارُها } أي : أبصار أصحابها { خاشعةٌ } ذليلة لهول ما ترى ، { يقولون } أي : منكرو البعث في الدنيا استهزاءً وإنكاراً للبعث : { أئنا لمردودون في الحافرة } ، استفهام بمعنى الإنكار ، أي : أنُردّ بعد موتنا إلى أول الأمر ، فنعود أحياءً كما كنا ؟ والحافرة : الحالة الأولى ، يُقال لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته ، أي : إلى حالته الأولى ، يُقال : لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه : رجع إلى حافرته أي : إلى حالته الأولى ويُقال : رجع في حافرته ، أي : طريقته التي جاء فيها ، فحفر فيها ، أي : أثر فيها بمشيه ، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة ، كقوله : { عيشة راضية } [ الحاقة : 21 ] على تسمية القابل بالفاعل . أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا : { أئذا كنا عظاماً نخرةً } بالية . ونخرة أبلغ من ناخرة لأنَّ " فَعِلٌ " أبلغ من فاعل ، يقال : نَخِرَ العظم فهو نَخِرٌ وناخر : بِلَى ، فالنَخِر هو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير ، أي : أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاماً بالية ؟ . و " إذا " منصوب بمحذوف ، وهو : أنُبعث إذا كنا عظاماً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة . { قالوا } أي : منكروا البعث ، وهو حكاية لكفر آخر ، متفرع على كفرهم السابق ، ولعل توسيط " قالوا " بينهما للإيذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم الأول المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم ، حسبما يُنبىء عنه حكايته بصيغة المضارع ، أي : قالوا بطريق الاستهزاء ، مُشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة ، مشعرين بغاية بُعدها من الوقوع : { تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ } أي : رجفة ذات خسران ، أو خاسر أصحابها ، والمعنى : أنها إن صحّت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها ، وهذا استهزاءُ منهم . قال تعالى في إبطال ما أنكروه : { فإِنما هي زجرةٌ واحدة } أي : لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله ، بل هي أسهل شيء ، فما هي إلاّ صيحة واحدة ، يُريد النفخة الثانية من قولهم : زَجَر البعير : إذا صاح عليه . { فإِذا هم بالسَّاهرةِ } أي : فإذا هم أحياء على وجه الأرض ، بعدما كانوا أمواتاً في جوفها . والساهرة : الأرض البيضاء المستوية ، سُميت بذلك ، لأنَّ السراب يجري فيها ، من قولهم : عين ساهرة جارية ، وفي ضدها : عين نائمة ، وقيل : إنَّ سالكها لا ينام خوف الهلكة ، وقيل : أرض بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس ، وقيل : أرض مكة . وقيل : اسم لجهنّم . وعن ابن عباس : أنَّ الساهرة : أرض مِن فضة ، لم يُعص اللهَ تعالى عليها قط ، خلقها حينئذ . وقيل : أرض يُجددها الله تعالى يوم القيامة . وقيل : الأرض السابعة ، يأتي الله بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخلائق ، وذلك حين تُبدل الأرض غير الأرض ، وقيل : الساهرة : أرض صحراء على شفير جهنم . والله تعالى أعلم . الإشارة : والأرواح النازعات عن ملاحظة السِّوى غرقاً في بحار الأحدية . والناشطات من علائق الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً ، والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت ، وأسرار الجبروت ، سبحاً ، فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً ، فالمدبرات أمر الكون ، بالتصرُّف فيه بالنيابة عن الحق ، وهو مقام القطبانية ، أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقاً في التجرُّد إلى العبادات بأنواع الطاعات . وهذه أنفس العُبّاد ، والناشطات عن الدنيا ، وأهلها فراراً إلى الله نشطاً ، وهي أنفس الزُهّاد والسابحات بعقولها في أسرار العلوم ، فتستخرج من الكتاب والسنة درراً ويواقيت ، يقع النفع بها إلى يوم الدين ، وهي أنفس العلماء الجهابذة ، فالسابقات إلى الله بأنواع المجاهدات والسير في المقامات ، حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً ، سبقاً ، وهي أنفس الأولياء العارفين ، فالمُدبرات أمر الخلائق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها ، وهي أنفس الأقطاب والغوث . وقال البيضاوي : هذه صفات النفوس وحال سلوكها ، فإنها تنزع من الشهوات ، وتنشط إلى عالم القدس ، فتسْبَح في مراتب الارتقاء ، فتسبق إلى الكمالات ، حتى تصير من المكمِّلات ، زاد الإمام : فتُدبْر أمر الدعوة إلى الله . وقال الورتجبي : إشارة النازعات إلى صولات صدمات تجلي العظمة ، فتنزع الأرواح العاشقة عن معادن الحدوثية . ثم قال : والناشطات : الأرواح الشائقة تخرج من أشباحها بالنشاط ، حين عاينت جمال الحق بالبديهة وقت الكشف . ثم قال : والسابحات تسْبَح في بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته ، تطلب فيها أسرار الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية ، فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت وجنات الجبروت ، تُسابق كل همة فالمدبِّرات هي العقول القدسية تُدَبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة . هـ . والمقسَم عليه : ليبعَثن اللهُ الأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة ، حين تنتبه إلى السير بالذكر والمجاهدة ، فإذا حييت بمعرفة الله كانت حياة أبدية . وذلك يوم ترجف النفس الراجفة ، وذلك حين تتقدّم لخرق عوائدها ومخالفة هواها ، تتبعها الرادفة ، وهي ظهور أنوار المشاهدة ، فحينئذ تُبعث من موتها ، وتحيا حياة لا موت بعدها ، وأمّا الموت الحسي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام . قلوب يومئذ أي : يوم المجاهدة والمكابدة واجفة ، لا تسكن حتى تُشاهد الحبيب ، أبصارُها في حال السير خاشعة لا يُخلع عليها خلعُ العز حتى تصل . يقول أهل الإنكار لهذه الطريق : أئِنا لمردودون إلى الحالة الأولى ، التي كانت الأرواح عليها في الأزل ، بعد أن كنا ميتين بالجهالة ، مُرْمى بنا في مزابل الغفلة ، كعِظام الموتى ، قالوا : تلك كرة خاسرة ، لزعمهم أنهم إذا صاروا إلى هذا المقام لم يبقَ لهم تمتُّع بشيء أصلاً ، مع أنَّ العارف إذا تحقق وصوله تمتع بالنعيمين نعيم الأشباح ونعيم الأرواح . قال تعالى في رد ما استحالوه : فإنما هي زجرة واحدة من همة عارف ، أو نظرة وليّ كامل ، فإذا هم في أرض الحضرة القدسية . قال الشيخ أو العباس : والله ما بيني وبين الرجل إلاَّ أن أنظر إليه وقد أغنيته . قلت : والله لقد بقي في زماننا هذا مَن يفوق أبا العباس والشاذلي وأضرابهما في الإغناء بالنظرة والملاحظة ، والحمد لله . ولمّا تَقَدّم إنكارهم البعثَ وتمردهم على الرسول ، قصَّ عليه قصةَ موسى وتمردَ فرعون على الله ، حتى ادّعى الألوهية ، تسلية له عليه الصلاة والسلام ، فقال : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } .