Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 15-26)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { هل أتاك حديثُ موسى } تشويقاً لما يُلقى إليه مِن خبره ، أي : هل أتاك حديثه ، أنا أُخبرك به ، إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه . وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه ، وهو المتبادر ، فالمعنى : أليس قد آتاك حديثه . وقوله : { إِذْ ناداه رَبُّه } : ظرف للحديث لا للإتيان ، لاختلاف وقتهما أي : هل وصلك حديثه ناداه ربه { بالوادِ المقدّس } المبارك المطهّر ، اسمه : { طُوى } بالصرف وعدمه . فقال في ندائه له : { اذهبْ إِلى فرعون إِنه طَغَى } تجاوز الحدّ في الكفر والطغيان ، { فقلْ } له بعد أن تأتيه : { هل لك إِلى أن تزكَّى } أي : هل لك رغبة وتَوَجُّه إلى التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة والإيمان . قال ابن عطية : " هل " هو استدعاء حسن . قال الكواشي : يقال : هل لك في كذا ؟ وهل لك إلى كذا ؟ كقولك : هل ترغب في كذا ، وهل ترغب إلى كذا . قال : وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبلاغ الرسالة إلى فرعون بصيغة الاستفهام والعرض ، ليكون أصغى لأذنه ، وأوعى لقلبه ، لِما له عليه من حق التربية . هـ . وأصله : " تتزكى " ، فحذف إحدى التاءين ، أو : أدغمت ، فيمن شدّد الزاي . { وأهْدِيَكَ إِلى ربك } وأهديك إلى معرفته ، بذكر دلائل توحيده وصفات ذاته ، { فتخشَى } ، لأنَّ الخشية لا تكون إلاَّ مع المعرفة ، قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَـٰؤُاْ } [ فاطر : 28 ] أي : العلماء بالله . وقال بعض الحكماء : اعرفوا الله ، فمَن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفةَ عين . فالخشية ملاك الأمر فمَن خشي الله أتى منه كل خير ومَن أَمِنَ اجترأ على كل شر . ومنه الحديث : " مَن خشي أدلج ، ومَن أدلج بلغ المنزل " قال النسفي : بدأ مخاطبته بالاستفهام ، الذي معناه العرض ، كما يقول الرجل لضيفه : هل لك أن تنزل بنا ؟ وأردفه الكلامَ الرقيق ، ليستدعيه باللطف في القول ، ويستنزله بالمداراة من عتوّه ، كما أمر بذلك في قوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِِّناً } [ طه : 44 ] هـ . { فأراه الآيةَ الكبرى } ، الفاء : فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى ، فإنه عليه السلام ما أراه إياها عقب هذا الأمر ، بل بعدما جرى بينه وبينه من المحاورات إلى أن قال : { إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ } [ الأعراف : 106 ] . والآية الكبرى : العصا ، أو : هي واليد ، لأنهما في حكم آية واحدة . ونسبتُها إليه عليه السلام بالنسبة إلى الظاهر ، كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرَيْنَـٰهُ ءَايَـٰتِنَا كُلَّهَا } [ طه : 56 ] بالنظر إلى الحقيقة { فكذَّب وعَصَى } أي : كذَّب موسى عليه السلام . وسمَّى معجزته سحراً ، وعصى اللهَ عزّ وجل بالتمرُّد ، بعدما عَلِمَ صحة الأمر ووجوب الطاعة ، أشد العصيان وأقبحه ، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً . وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عزّ وجل ، وترك القولة العظيمة التي يدّعيها الطاغية ، ويقبلها منه الفئة الباغية ، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر فقط . قاله أبو السعود . { ثم أّدْبَر } أي : تولَّى عن الطاعة ، أو : انصرف عن المجلس { يسعَى } في معارضة الآية ، أو : أدبر هارباً من الثعبان ، فإنه رُوي أنه عليه السلام لمّا ألقى العصا انقلب ثعباناً أشعر ، فاغراً فاه ، بين لحييه ثمانون ذرعاً فوضع لحيه الأسفل على الأرض ، والأعلى على القصر ، فتوجه نحو فرعون ، فهرب وأحدث ، وانهزم الناس مزدحمين ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وقيل : إنها ارتفعت في السماء قدر ميل ، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون ، وجعلت تقول : يا موسى مُرني بما شئت ، وجعل فرعون يقول : بالذي أرسلك إلاّ أخذته ، فأخذه فعاد عصا … { فحشَرَ } أي : فجمع السحرة ، كقوله : { فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [ الشعراء : 53 ] أو : جمع الناس ، { فنادَى } في المقام الذي اجتمعوا فيه ، قيل : قام خطيباً ، { فقال أنا ربكم الأعلَى } لا رب فوقي ، وكان لهم أصنام يعبدونها . وهذه العظيمة لم يجترىء عليها أحد قبله . قال ابن عطية : وذلك نهاية في المخارقة ، ونحوُها باقٍ في ملوك مصر وأتباعهم . هـ . قيل : إنما قال ذلك ابنُ عطية لأنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا ، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم . وكان أول مَن ملكها منهم : المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد الله ، وآخرهم العاضد . وقد طهَّر الله مصر من هذا المذهب ، بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذا رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً . هـ . من الحاشية . { فأخَذَه اللهُ نكال الآخرةِ والأُولى } بالإغراق ، فالنكال : مصدر بمعنى التنكيل ، كالسلام بمعنى التسليم ، وهو التعذيب الذي ينكل مَن رآه أو سمعه ، ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه . وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد ، كوعْدَ الله وصبغةَ الله ، وقيل : مصدر لـ " أخذ " ، أي : أخذه الله أخذ نكال الآخرة ، وقيل : مفعول من أجله ، أي : أخذه الله لأجل نكال الآخرة . وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع بعض الأخذ فيهما ، لا باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما ، فإنَّ ذلك لا يتصور في الآخرة ، بل في الدنيا ، فإنَّ العقوبة الأخروية تنكل مَن يسمعها ، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة . وقيل : المراد بالآخرة والأولى : قوله : { أنا ربكم الأعلى } وقوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى } [ القصص : 38 ] . قيل : كان بين الكلمتين أربعون سنة ، فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب . { إِنَّ في ذلك } أي : فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به { لَعِبرةً } عظيمة { لِمن } شأنه أن { يَخْشَى } وهو مَن عرف الله تعالى وسطوته . الإشارة : جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب ، وفرعون إشارة إلى النفس ، فيُقال : هل أتاك حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة بعد طي الأكوان عن مرآة نظره ، فقال له : اذهب إلى فرعون النفس إنه طغى . وطغيانها : إرادتها العلو والاستظهار ، فقل له : هل لك إلى أن تَزَكَّى وتتطهر من الخبائث ، لتدخل الحضرة ، فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى ، فإنما يخشى اللهَ مَن عرفه . فأراه الآية الكبرى مِن خرق العوائد ومخالفة الهوى ، فكَذَّب وعصى ، حين رأى عزم القلب على مجاهدته ، فحشر جنوده مِن حب الدنيا والرئاسة ، وإقبال الناس والحظوظ والشهوات ، فنادى ، فقال : أنا ربكم الأعلى ، فلا تعبدوا غيري . هذا قول فرعون النفس ، فأخذه اللهُ نكال الآخرة والأولى ، أي : استولى جند القلب عليه ، فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء . إنَّ في ذلك لعبرة لمَن يخشى ، ويسلك طريق التزكية ، فإنه يصل إلى بحر الأحدية . والله تعالى أعلم بأسرار كتابه . ولمّا أقسم تعالى في صدر السورة على البعث ، بيَّن سهولته على قدرته ، فقال : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } .