Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 67-69)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { ما كان لنبي أن يكونَ له أسرى } يقبضها { حتى يُثخِنَ } أي : يبالغ { في الأرض } بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ويستولي أهله . { تُريدون } بقبض الأسارى { عَرَض الدنيا } حطامها بأخذ الفداء منهم ، { والله يُريدُ الآخرة } أي : يريد لكم ثواب الآخرة ، الذي يدوم ويبقى ، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه ، { والله عزيز } يغلب أولياءه على أعدائه ، { حكيم } يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها ، كما أمر بالإثخان ، ومَنَعَ مِنْ أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخيَّر بينه وبين المنِّ لما تحولت الحال ، وصارت الغلبة للمؤمنين . رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أُتِيَ يوم بدر بسَبْعِينَ أسِيراً ، فيهم العَبَّاس وعَقيلُ بن أَبي طَالِبٍ ، فاستأْذن فِيهِمْ فقال أبو بكر رضي الله عنه : قَومُكَ وأهلُك ، اسْتَبِقهِمْ ، لعلَّ الله يَتُوب عَلَيْهِمْ ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أَصْحَابَكَ . وقال عمر رضي الله عنهم : اضْربْ أعْنَاقَهُمْ ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ ، فمكِّني من فُلاَن لنَسِيبٍ لَهُ ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما ، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ فلم يَهْو ذلك رسول الله صلى عليه وسلم ، وقال : " إنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ من كُلّ لين ، وإن الله ليُشَدِّدُ قُلوب رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ من الحِجَارَةِ ، وإن مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم " ، قال : { فَمَن تَبِعَنىِ فَإِنَّهُ مِنّىِ وَمَن عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح ، قال : { رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَىالأَرضِ مِنَ الكَفِرينَ دِيَّاراً } [ نوح : 26 ] . فخيَّر أصحابه ، فأخذوا الفداء ، فنزلت ، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر يَبْكِيانِ ، فقال : يا رسول الله : أخْبِرْنيِ ، فَإنْ أجد بُكاء بَكَيْتُ ، وإلا تَبَاكيْتُ ؟ فقال : " أبكِي على أصْحَابِكَ في أخْذِهُمُ الفداء ، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدْنَى مِنْ هذِهِ الشَّجَرة " لِشَجَرَة قَرِيبَةٍ . والآية دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يجتهدون ، وأنه قد يكون الخطأ ، ولكن لا يقرون عليه . قاله البيضاوي . قال القشيري : أخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر منهم الفداء ، وكان ذلك جائزاً لوجوب العصمة ، ولكن قتلهم كان أَوْلى . هـ . وقال ابن عطية : إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم ، لا على الفداء لأن الله تعالى قد كان خيَّرهم ، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين ، كما تقدم في سورة آل عمران . ثم قال : والنبي عليه الصلاة السلام خارج عن ذلك الاستبقاء . انظر تمامه في الحاشية . فإن قلت : إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم ، وهم لم يرتكبوا محظوراً ؟ فالجواب : أن العتاب تابع لعلو المقام ، فالخواص يُعاتبون على المباح ، إن كان فعله مرجوحاً ، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم في أمر دنيوي ، وهو الفداء ، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه ، ويدل عليه قوله : { تُريدون عَرَض الدنيا } ، وهذا إنما كان في بعضهم ، وجُلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى في تمام عتابهم : { لولا كتابٌ من الله سبق } أي : لولا حكم الله سبق إثباته في اللوح المحظوظ ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده ، أو أنه سيحل لكم الغنائم ، أو ما سبق في الأزل من العفو عنكم ، { لمسّكم فيما أخذتُم } من الفداء أو من الأسارى ، { عذابٌ عظيم } . رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال ، حيث نزلت : " لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ " وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان . ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال : { فكلوا مما غنمتُم } من الكفار ، ومن جملته : الفدية ، فإنها من الغنائم ، { حلالاً طيباً } أي : أكلاً حلالاً ، فائدته : إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على المتقدمين . رُوي أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت : { فكلوا مما غنمتم } ، ووصفة بالطيب تسكيناً لقلوبهم ، وزيادة في حليتها . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيتُ خَمْساً لِيَ لَمْ يُعْطَهُنَّ أّحّدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي : أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهُوراً وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ ، وخُصصتُ بِجَوَامعِ الكلمِ " أو كما قال عليه الصلاة والسلام . ثم قال تعالى : { واتقوا الله } في مخالفته { إن الله غفور رحيم } أي : يغفر لكم ما فرط ، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم توسعةً عليكم . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم ، عوضاً عن الدنيا ، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت ، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاة ، أو جمع المال ، والتمتع بالحظوظ ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده ، وتعجيل العقوبة له ، حتى إذا تداركه الله بلطفه ، وسبقت له عناية من ربه ، فيقال له حينئذٍ : لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم . ثم بشَّر الأسارى بخلف ما أخذ منهم من الفداء بأكثر منه ، فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ } .