Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 80, Ayat: 17-32)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { قُتِلَ الإِنسانُ } أي : لُعن ، والمراد : إمّا مَن استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نُعُوته الجليلة ، الموجبة للإقبال عليه ، والإيمان به ، وإمّا الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده وقيل : المراد : أُميّة أو : عُتبة بن ربيعة . { ما أكْفَرَه } ، ما أشد كفره ! تعجبٌ من إفراطه في الكفران ، وبيانٌ لاستحقاقه الدعاء عليه ، وقيل : " ما " استفهامية ، توبيخي ، أي : أيُّ شيء حَمَلَه على الكفر ؟ ! { من أي شيءٍ خَلَقهُ } أي : من أيِّ شيءٍ حقيرٍ خلَقَه ؟ ثم بيّنه بقوله : { من نطفةٍ خَلَقَه } أي : مِن نطفة مذرة ابتداء خلقه ، { فقدَّره } فهيّأه لِما يصلح له ، ويليق به من الأعضاء والأشكال ، أو : فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه . { ثم السبيلَ يَسَّرهُ } أي : يَسّر له سبيل الخروج من بطن أمه ، بأن فتح له فم الرحم ، وألهمه أن يتنكّس ليسهل خروجه . وتعريف " السبيل " باللام للإشعار بالعموم ، أو : يَسْر له سبيل الخير أو الشر ، على ماسبق له ، أو يَسْر له سبيل النظر السديد ، المؤدِّي إلى الإيمان ، وهو منصوب بفعل يُفسره ما بعده . { ثم أماته فأقْبَره } أي : جعله ذا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً ، ولم يجعله مطروداً على وجه الأرض تأكله السباع والطير ، كسائر الحيوان . يُقال : قبرتَ الميت : إذا دفنته ، وأقبرته : أمرت بدفنه . وعدّ الإماتة من النِعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم ، ولأنها سبب وصول الحبيب إلى حبيبه . { ثم إِذا شاء أنْشَرَهُ } أي : إذا شاء نَشْرَه ، على القاعدة المستمرة مِن حذف مفعول المشيئة ، أي : ثم ينشره في الوقت الذي شاء ، وهو يوم القيامة ، وفي تعلُّق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأنّ وقته غير متعين ، قال ابن عرفة : تعليق المعاد بالمشيئة جائز ، جارٍ على مذهب أهل السنة لأنهم يقولون : إنه جائز عقلاً ، واجب شرعاً ، وأمّا المعتزلة فيقولون بوجوبه ، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين . هـ . { كلاَّ } ، ردع للإنسان عما هو عليه ، ثم بيَّن سبب الردع فقال : { لمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ } أي : لم يقضِ العبد جميع ما أمَرَه اللهُ به إذ لا يخلوا العبد من تقصيرٍ ما ، فإن قلت : " لَمَّا " تقتضي توقع منفيها ، وهو هنا متعذر كما قلتَ ؟ . قلتُ : الأمر الذي أمر الله به عبادَه في الجملة : هو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان ، وهو ممكن عادة ، متوقع في الجملة وقد وصل إليه كثير من أوليائه تعالى ، فمَن وصل إليه فلا تقصير في حقه ، وإن كانت المعرفة غير متناهية ، ومَن لم يصل إليه فهومُقصِّر ، غير أنَّ عقابه هو احتجابه عن ربه . والله تعالى أعلم . ثم أَمَرَ بالتفكُّر في نِعم الله ، ليكون سبباً للشكر ، الذي هو : صرف كلية العبد في طاعة مولاه ، فلعله يقضي ما أَمَرَه فقال : { فلينظر الإِنسانُ إِلى طعامه } أي : فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام بدنه ، وعليه يدور أمر معاشه ، كيف صيَّرناه ، { أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ } أي : الغيث { صَبًّا } عجيباً ، فمَن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام ، وبالكسر استئناف . { ثم شققنا الأرضَ } بإخراج النبات ، أو : بالحرث ، وهو فعل الله في الحقيقة إذ لا فاعل سواه ، { شَقًّا } بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات ، صِغراً أو كِبراً ، وشكلاً وهيئة ، أو : شقاً بليغاً إذ لا ينبت بمطلق الشق ، وإذا نبت لا يتم عادة . و " ثم " للتراخي التي بين الصبّ والشق عادة ، سواء قلنا بالنبات أو بالكَراب ، وهو الحراثة . { فأنبتنا فيها حَبًّا } كالبُر والشعير وغيرهما مما يتغذّى به . قال ابن عطية : الحب : جمع حبة بفتح الحاء ، وهو : كل ما يتخذه الناس ويُرَبونه ، والحِبة بكسر الحاء : كل ما ينبت من البذور ولا يُحْفل به ولا هو بمتخَذ . هـ . { وعِنباً } أي : ثمرة الكَرْم ، وهذا يؤيد أن المراد بالشق : حفر الأرض بالحرث أو غيره ، لأنَّ العنب لا يشق الأرض في نباته ، وإنما يغرس عوداً . وقال أبو السعود : وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه ، فلا ضرر في في خُلُو نبات العنب عن شق الأرض . هـ . { وقَضْباً } وهو كل ما يقضب ، أي : يُقطع ليُؤكل رطباً من النبات ، كالبقول والهِلْيَوْن ونحوه مما يُؤكل غضاً ، وهو جملة النِعَم التي أنعم الله بها ، ولا ذكر له في هذه الآية إلاّ في هذه اللفظة . قاله ابن عطية . والهِلْيَوْن بكسر الهاء وسكون اللام : جمع هليونة ، وهو الهِنْدَبا . قاله ابن عرفة اللغوي ، وقيل : هو الفِصْفَصَة ، وهو ضعيف لأنها للبهائم ، وهي داخلة في الأَبْ . { وزيتوناً ونخلا } ، الكلام فيهما كما تقدّم في العنب ، { وحدائقَ } بساتين { غُلْباً } : جمع غلباء ، أي : غلاظ الأشجار مع نعومتها ، وصفَ به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها ، { وفاكهةً } أي : ما تتفكهون به من فواكه الصيف والخريف ، { وأبًّا } أي : مرعَى لدوابكم ، من : أبَّه : إذا أمَّه أي قصده ، لأنه يُؤم وينتجع ، اي : يُقصد ، أو : من أب لكذا : إذا تهيأ له لأنه مُتهيأ للرعي ، أو : فاكهة يابسة تُؤب للشتاء . وعن الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه سُئل عن الأب ، فقال : أيُّ سماء تُظلني ، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به . وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ، فقال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأبُّ ؟ ثم رفع عصاً كانت بيده ، فقال : هذا لعَمْرُ الله التكلُّف ، وما عليك يا ابن أمر عمر ، ألاَّ تدري ما الأبُّ ؟ ثم قال : اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه . هـ . وهذه اللفظة من لغات البادية ، فلذلك خفيت على الحواضر . { متاعاً لكم ولأنعامكم } أي : جعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم فإنّ بعض هذه المذكورات طعام لهم ، وبعضها علف لدوابهم ، و { متاعاً } : مفعول لأجله ، أو : مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد ، أي : متّعكم بذلك متاعاً ، والالتفات لتكميل الامتنان ، والله تعالى أعلم . الإشارة : قُتل الإنسان لُعن الغافل عن ذكر الله لقوله عليه السلام : " الدنيا مَلعونَةٌ ، ملعونٌ ما فيها ، إلاَّ ذِكْرُ الله وما وَالاهُ ، وعالماً ومُتَعلِّماً " ، فلم يخرج من اللعنة إلاّ الذاكر والعالِم والمتعلم إذا أخلصا ، ثم عجب تعالى من شِدة كفره لنِعمه ، حيث لم يُشاهد المُنعِّم في النِعم ، فيقبض منه ، ويدفع إليه ، ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه ، وما تقوم به بِنْيتِه فيما بينهما ليحضه على الشكر . قال القشيري : { من أيّ شيء خلقه … } الخ ، يعني : ما كان له ليكفر ، لأنّا خلقناه من نطفة الوجود المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا ، وأسمائنا . هـ . ثم قال : { ثم السبيل يَسَّره } أي : سهلنا عليه سبيل الظهور لِمَظاهر الأسماء الجلالية والجمالية ، ثم أماته عن أنانيته ، فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء ، ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء . كلاَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا ، وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا ، ليكون شاكراً لأنعُمنا ، لمَّا يقضِ ما اَمَرَه ، وهو الوصول إلى حضرة العيان . فكل مَن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد قضى ما أَمَرَه به مولاه ، وكل مَن لم يصل إليها فهو مُقَصِّر ، ولو أعطي عبادة الثقلين . قال القشيري : ويُقال : لم يقضِ الله له أمره به ، ولو قضى له ما أمره به لَمَا عصاه . هـ . وقال الورتجبي : لم يفِ بالعهد الأول ، حين خاطبه الحق بقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } [ الأعراف : 172 ] ولم يأتِ بمراد الله منه ، وهو العبودية الخالصة . هـ . قلت : يعني مع انضمام شهود عظمة الربوبية الصافية . وقوله تعالى : { فلينظر الإنسانُ إلى طعامه } أي : الحسي والمعنوي ، وهو قوت القلوب والأرواح ، أنَّا صببنا الماء صبًّا ، أي : صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب الميتة فحييت . قال القشيري : صَبَبْنا ماءَ الرحمة على القلوب القاسية فَلاَنتْ للتوبة ، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوارُ التجريد . هـ . ثم شققنا أرض البشرية بأنواع العبادات والعبودية ، شقًّا ، فأنبتنا فيها : في قلبها حَبَّ المحبة ، وكَرْمَ الخمرة الأزلية ، وقَضْب الزهد في زهرة الدنيا وشهواتها ، وزيتوناً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم ، ونخلاً يجنى منها ثمار حلاوة المعاملة ، وحدائق ، أي : بساتين المعارف متكاثفة التجليات ، وأبًّا ، أي : مرعى لأرواحكم ، بالفكرة والنظرة في أنوار التجليات الجلالية والجمالية ، فيأخذ النصيب من كل شيء ، ويعرف الله في كل شيء ، كما قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه : @ الخلقُ نوار وأنا رعيت فيهم هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم @@ متاعاً لكم ، أي : لقلوبكم وأرواحكم ، بتقوية العرفان في مقام الإحسان ، ولأنعامكم أي : نفوسكم بتقوية اليقين في مقام الإيمان . والله تعالى أعلم . ثم ذكر أحوال النشر الموعود به في قوله : { إذا شاء أنشره } ، وقال الكواشي : ثم أومأ إلى أنه لا بد من الموت ، وإن حصل الانتفاع المذكور فإنه فانٍ مفارق ، فقال : { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } .