Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 80, Ayat: 33-42)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فإِذا جاءت الصَّاخةُ } أي : صيحة القيامة ، وهي في الأصل : الداهية العظيمة ، وسُميت بذلك لأنَّ الخلائق يَصخون لها ، اي : يُصيخون لها ، مِن : صَخَّ لحديثه : إذا أصاخ له واستمع ، وُصفت بها النفخة الثانية لأنَّ الناس يصخون لها ، وقيل : هي الصيحة التي تصخ الآذان ، أي : تصمها ، لشدة وقعها . وجواب إذا : محذوف أي : كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة ، يدل عليه قوله : { يومَ يفرُّ المرءُ من أخيه } ، فالظرف متعلق بذلك الجواب ، وقيل : منصوب بأعني ، وقيل : بدل من " إذا " أي : يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه ، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه ، { و } يفرُّ أيضاً من { أُمهِ وأبيهِ } مع شدة محبتهم فيه في الدنيا ، { وصاحبتهِ } أي : زوجته { وبنيهِ } ، بدأ بالأخ ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه ثم بالصاحبة والبنين لأنهم أحبُّ ، فالآية من باب الترقي . وقيل : أول مَن يفرُّ من أخيه : هابيل ، ومن أبويه : إبراهيم ، ومن صاحبته : نوح ولوط ، ومن ابنه : نوح . { لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه } أي : لكل واحد من المذكورين شغل شاغل ، وخطب هائل ، يكفيه في الاهتمام به ، ويشغله عن غيره . ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء ، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء ، فقال : { وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ } أي : مضيئة متهللة ، من : أسفر الصبح : إذا أضاء ، قيل : ذلك مِن قيام الليل ، وقيل : مِن إشراق أنوار الإيمان في قلوبهم ، { ضاحكةٌ مستبشرةٌ } بما تُشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة . { ووجوه يومئذٍ عليها غبرةٌ } أي : غبار وكدور ، { تَرهقها } أي : تعلوها وتغشاها { قَتَرَةٌ } أي : سواد وظُلمة { أولئك هم الكفرةُ } ، الإشارة إلى أصحاب تلك الوجوه . وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتهم في السوء ، أي : أولئك الموصوفون بسواد الوجوه وغبرتها هم الكفرة { الفجرةُ } أي : الجامعون بين الكفر والفجور ، ولذلك جمع الله لهم بين السواد والغبرة . نسأل الله السلامة والعافية . الإشارة : فإذا جاءت الصاخة ، أي : النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية فتأنّست القلوب بالله ، وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة ، بواسطة أو بغير واسطة ، يفر من الخلق ، الأقارب والأجانب ، أُنساً بالله وشُغلاً بذكره ، لا يزال هكذا حتى يصل إلى مولاه ، ويتمكن من شهوده أيَّ تمكُّن ، فحينئذ يخالط الناسَ بجسمه ويفارقهم بقلبه ، كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها : @ إِنَّي جَعلتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدّثي وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي فَالْجِسْمُ مني لِلْجَلِيس مُؤَانِس وحبيبُ قَلْبي في الفُؤادِ أنِيسي @@ قال القشيري : قالوا : الاستقامة أن تشهد الوقت قيامة ، فَما مِن وَلِيًّ وعارفٍ إلاّ وهو اليومَ يَفرُّ بقلبه من الجميع لأنّ لكل شأناً يُغنيه ، فالعارفُ مع الخَلْق لا بقلبه ، ثم ذكر شعر رابعةُ . وقال الورتجبي : أكّد الله أمر نصيحته لعباده ألاّ يعتمدوا إلى مَن سواه في الدنيا والآخرة ، وأنَّ ما سواه لا ينقذه مِن قبض الله حتى يفرّ مما دون الله إلى الله . هـ . وقال في قوله تعالى : { لكل امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه } : لكل واحدٍ منهم شأن يشغله ، وللعارف شأن مع الله في مشاهدته ، يُغنيه عما سوى الله . هـ . قوله تعالى : { وجوه يومئذ مُسْفِرة ضاحكة مستبشِرة } كل مَن أَسفر عن ليل وجوده ضياءُ نهار معرفته ، فوجهه يوم القيامة مُسْفِر بنور الحبيب ضاحك لشهوده ، مستبشر بدوام إقباله ورضوانه . وقال أبو طاهر : كشف عنها سُتور الغفلة ، فضحكت بالدنو من الحق ، واستبشرت بمشاهدته . وقال ابن عطاء : أسفر تلك الوجوه نظرُها إلى مولاها ، وأضحكها رضاه عنها . هـ . قال القشيري : ضاحكة مستبشرة بأسبابٍ مختلفة ، فمنهم مَن استبشر بوصوله إلى حبيبه ، ومنهم بوصوله إلى الحور ، ومنهم ، ومنهم ، وبعضهم لأنه نظر إلى ربِّه فرأه ، ووجوه عليها غبرة الفراقُ ، يرهقها ذُلُّ الحجاب والبعاد . هـ . قال الورتجبي : { وجوه يومئذ مُسْفِرة } ، وجوه العارفين مُسْفرة بطلوع إسفار صبح تجلِّي جمال الحق فيها ، ضاحِكة مِن الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها ، مستبشرة بخطابه ووجدان رضاه ، والعلم ببقائها مع بقاء الله . ثم وصف وجوه الأعداء والمدّعين فقال : { ووجوه يومئذٍ عليه غبرةُ } الفراقِ يوم التلاق ، وعليها قَتر ذل الحجاب ، وظلمة العذاب نعوذ بالله من العتاب قال السري : ظاهر عليها حزن البعاد لأنها صارت محجوبة ، عن الباب مطرودة ، وقال سَهْلٌ : غلب عليها إعراض الله عنها ، ومقته إياها ، فهي تزداد في كل يوم ظلمة وقترة . هـ . اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك ، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة ، إنك على كل شيء قدير ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً .