Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 81, Ayat: 15-29)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فلا أُقسم } ، " لا " صلة ، أي : أُقسم { بالخُنَّس } أي : بالكواكب الرواجع ، مِن : خَنَس إذا تأخر ، وهي ما عدا النيرين من الدراريّ الخمسة ، وهي : بهرام [ المريخ ] ، وزحل وعطارد ، والزُّهرة ، والمشتري ، فترى النجم في آخر البرج إذا كرَّ راجعاً إلى أوله ، { الجَوَارِ } أي : السيّارة { الكُنَّس } أي : المستترة ، جمع كانس وكانسة ، وذلك أنَّ هذه النجوم تجري مع الشمس والقمر ، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس ، فخنوسها : رجوعها ، وكنوسها : اختفاؤها تحت ضوئها ، من كُنس الوحش : إذا دخل كناسه ، أي : بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر ، وقيل : هي جميع الكواكب ، تختنس بالنهار ، فتغيب عن العيون ، وتكنس بالليل ، أي : تطلع في أماكنها . { والليلِ إِذا عسعس } أقبل بظلامه ، أو : أدبر ، فهو من الأضداد ، وقال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس : أدبر ، تقول العرب : عسعس الليل وسَعْسع : إذا أدبر ولم يبقَ منه إلاّ اليسير ، قال الشاعر : @ حَتَّى إذا الصُّبحُ لها تَنَفَّسَا وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعسا @@ والحاصل : أنهما يرجعان إلى شيء واحد ، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره ، { والصبح إّذا تنفس } امتدّ ضوؤه وارتفع حتى يصير نهاراً ، ولمّا كان إقبال النهار يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً ، فقيل : تنفس الصبح . وجواب القسم : { إِنه } أي : القرآن { لقولُ رسولٍ كريم } على ربه ، وهو جبريل عليه السلام قاله عن الله عزّ وجل ، وإنما أضيف القرآن إليه لأنه هو الذي نزل به . { ذي قوةٍ } ذي قدرة على ما كلف به ، لا يعجز عنه ولا يضعف ، { عند ذي العرش مكينٍ } أي : عند الله ذا مكانة رفيعة ورتبة عالية ، ولمّا كانت المكانة على حسب حال الممكن قال : { عند ذي العرش } ليدل على عظم منزلته ومكانته ، والعندية : عندية تشريف وإكرام ، لا عندية مكان . { مطاعٍ ثَمَّ } أي : في السموات يُطيعه مَن فيها ، أو عند ذي العرش تُطيعه ملائكتُه المقربون ، يصدون عن أمره ، ويرجعون إليه ، وقال بعضهم : ومن طاعتهم له : فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج باستفتاحه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحمدٍ حتى دخلها ، وكذا النار حتى نظر إليها . هـ . { أمين } على الوحي . { وما صاحِبُكم } هو الرسول صلى الله عليه وسلم { بمجنونٍ } كما تزعم الكفرة ، وهو عطف على جواب القسم ، مدخول في المقسَم عليه ، { ولقد رآه } أي : رآى محمدٌ صلى الله عليه وسلم جبريلَ على صورته التي خلقه اللهُ عليها ، { بالأُفق المبين } أي : بمطلع الشمس الأعلى ، وقال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل : " إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون عليها في السماء " قال : أتقدر على ذلك ؟ قال : " بلى " قال : فأين تشاء ؟ قال : " بالأبطح " ، قال : لا يسعني ، قال : " بمِنىً " ، قال : لا يسعني ، قال : " فبعرفات " قال : ذلك بالحري أن يسعني ، فواعده ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت ، فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة ، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ، ورأسه في السماء ، ورجلاه في الأرض ، فلما رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلم خرّ مغشيًّا عليه ، فتحوّل جبريلُ في صورته ، فضمّه إلى صدره ، وقال : لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ، ورجلاه في التخوم السابعة ، وإنَّ العرش لعلى كاهله ، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع أي : العصفورـ حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته . هـ . أو : ولقد رأى جبريلَ عليه السلام ليلة المعراج . أو : لقد رآى ربه ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم بالأُفق الأعلى . { وما هو على الغيبِ } أي : وما محمد على الوحي ، وما يخبر به من الغيوب { بضنين } ببخيل ، على قراءة الضاد ، من : ضنَّ بكذا : بخل به ، أي : لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحُلْوان ، بل يُعلّمه لكل مَن يطلبه ولا يكتم شيئاً منه ، أو : بمتهم على قراءة : المشالة ، من الظنة وهي التهمة ، أي : لا ينقص شيئاً مما أوحى إليه أو يزيد فيه ، { وماهو بقول شيطان رجيم } طريد ، وهو كقوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ } [ الشعراء : 210 ] أي : ليس هو بقول المسترقة للسمع ، وهو نفي لقولهم : إنه كهانة أو سحر . { فأين تذهبون } وتتركون الحقَّ الواضح ؟ وهو استضلال لهم ، كما يقال لتارك الجادة وذهب في التيه : أين تذهب ، مُثَّلت حالهم في تركهم الحقّ ، وعدولهم عنه إلى الباطل ، بمَن ترك طريق الجادة ، وسلك في غير طريق . وقال الزجاج : معناه : فأيُّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنْتُ لكم ؟ وقال الجنيد : فأين تذهبون عنا ، وإن من شيء إلاَّ عندنا : هـ . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : لظهور أنه وحي مبين ، وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون عنه ؟ { إِن هو إِلاّ ذِكْرٌ للعالَمين } أي : موعظة وتذكير للخلق { لمَن شاء منكم } : بدل من العالمين بإعادة الجار ، { إن يستقيم } : مفعول " شاء " أي : القرآن تذكير وموعظة لمَن شاء الاستقامة ، يعني : إن الذي شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر ، فكأنه لم يوعظ به غيرهم ، { وما تشاؤون } الاستقامة { إِلاّ أن يشاء الله } . ولمّا نزل قوله تعالى : { لمَن شاء منكم أن يستقيم } قال أبو جهل : الأمر إلينا ، إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى : { وما تشاؤون إِلاّ أن يشاء الله رب العالمين } أي : مالك الخلق ومربيهم أجمعين ، قال ابن منبه : قرأت بضعاً وثمانين كتاباً مما أنزل الله ، فوجدتُ فيها : مَن جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر . وقال الواسطي : أعجزك في جميع أوصافك ، فلا تشاء إلاّ بمشيئته ، ولا تعمل إلاّ بقوته ، ولا تطيع إلاّ بفضله ، ولا تعصي إلاّ بخذلانه ، فماذا يبقى لك ، وبماذا تفتخر من أفعالك ، وليس لك منها شيء ؟ . هـ . وقال الطيبي عن الإمام : إنَّ مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله لأن مشيئة العبد محدثة ، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى ، ثم قال : وقول المعتزلة : إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضغيف لأنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة الاختيارية حادثة ، ولا بد من محدث يحدثها . هـ . الإشارة : فلا أُقسم بالخُنَّس الحواس الخمس ، وهي : السمع والبصر والشم والذوق والوجدان الباطني ، فإنها تخنس ، أي : تتأخر عند سطوع حلاوة الشهود ، وهي الجوار الكُنَّس لأنها تجري في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة ، وتستتر عند الذكر أو اليقظة ، والليل إذا عسعس ، أي : ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع عوائده ، والصُبح ، أي : صُبح الاستشراف على نهار المعرفة ، إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئاً فشيئاً ، إنه ، أي : الوحي الإلهامي لَقَولُ رسول كريم واراد رباني ، ذي قوة لأنه يأتي من حضرة قهّار قوي متين ، فلا يُصادم شيئاً من المساوىء إلاّ دمغه ، عند ذي العرش مكين ، ولذلك تَمَكَّن صاحبه مع الحق ، واكتسب مكانة عنده ، حيث كان من المقرَّبين السابقين مطاع ثَمَّ أمين لأنّ الوارد الإلهي تجب طاعته لأنه يتجلّى من حضرة الحق ، وهو أمين على ما يأتي به من العلوم ، وما صاحبكم بمجنون ، يعني العارف صاحب الواردات الألهية ، ولقد رآه ، أي : رأى ربه بعين البصيرة والبصر ، بالأُفق المبين ، وهو على الأسرار والمعاني ، حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى ، أو : من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، وما هو على الغيب بضنين ، أي : ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار التوحيد الخاص بمُتَّهَم ، ولا بخيل ، بل يجود به على مَن يستحقه ، وما هو بقول شيطان رجيم ، إذ لم يبقَ لهم شيطان حتى يخلط وسوسته بواردات قلوبهم ، فأين تذهبون عن اتباع طريقة الموصلة إلى حضرة الحق ، إن هو إلا ذكر للعالمين أي : ما جعله الله في كل زمان إلاّ ليُذَكِّر أهل زمانه ، لمَن شاء أن يستقيم على طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية ، ولكن الأمر كله بيد الله ، وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين . اللهم شِئنا بفضلك ، واقصدنا بعنايتك ، وخصنا برعايتك ، واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى ، آمين . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .