Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 81, Ayat: 1-14)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِذا الشمسُ كُوِّرتْ } أي : ذُهب بضوئها ، من كوَّرت العمامة : إذا لففتها ، أي : يُلفّ ضوؤها لفًّا ، فيذهب انبساطه وانتشاره ، أو : ألقيت عن فلكها ، كما وصفت النجوم بالانكدار ، من : طعنَة فكوّره : إذا ألقاه على الأرض . وعن أبي صالح : كُوِّرت : نُكّست ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : تكويرها : إدخالها في العرش . { وإِذا النجومُ انكَدرَتْ } أي : انقضّت وتساقطت ، فلا يبقى يومئذٍ نجمٌ إلاّ سقط على الأرض . قال ابن عباس رضي الله عنه : النجوم قناديل معلّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض بأيدي ملائكة من نور ، فإذا مات مَن في السموات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم ، وقيل : انكدارها : انطماس نورها ، ويُروى : أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم ، ليراها مَن عبدها ، كما قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] . { وإِذا الجبال سُيِّرتْ } عن أماكنها بالرجعة الحاصلة ، فتسير عن وجه الأرض حتى تبقى قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً . { وإِذا العِشَار } جمع : عُشَرَاء ، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر ، وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة ، وهي أنْفس ما يكون عند أهلها ، وأعزّها عليهم ، { عُطِّلَتْ } تُركت مهملة لاشتغال أهلها بأنفسهم ، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذا الحال ، فتركوها أحبّ ما تكون إليهم ، لشدة الهول ، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة ، تُبعث كذلك فيغيبون عنها لشدة الهول ، ويحتمل : إن يكون كناية عن شدة الأمر . { وإِذا الوحوشُ حُشِرت } أي : جُمعت من كل جانب ، وقيل : بُعثت للقصاص ، قال قتادة : يُحشر كلُّ شيءٍ حتى الذباب للقصاص ، فإذا قضى بينها رُدّت تراباً ، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم ، كالطاووس ونحوه . { وإِذا البحار سُجّرتْ } أي : أُحميت ، أو مُلئت وفُجر بعضها إلى بعض ، حتى تصير بحراً واحداً ، كما قال تعالى : { وَإِذَا ٱلْبِحَارُ فُجِّرَتْ } [ الأنفطار : 3 ] ، من سَجر التنّور : إذا ملأه بالحطب ، وقيل : يُقذف بالكواكب فيها ، ثم تُضرم فتصير نيراناً ، فمعنى " سُجِّرتْ " حينئذ : قُذف بها في النار وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار . { وإِذا النفوس زُوِّجتْ } أي : قُرنت بأجسادها ، أو : قرنت بشكلها ، الصالح مع الصالح في الجنة ، والطالح مع الطالح في النار ، أو : بكتابها ، أو بعملها ، أو : نفوس المؤمنين بالحُور ، ونفوس الكافرين بالشياطين . { وإِذا الموؤدةُ } أي : المدفونة حية ، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق ، أو لخوف العار بهم من أجلهن ، وقيل : كان الرجل إذا وُلد له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر ، حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء ، وقد حفر لها حفرة ، فيلقيها فيها ، ويهيل عليها التراب . وقيل : كانت الحامل إذا اقترتب ، حفرت حفرة ، فتمتخض عليها ، فإذا ولدت بنتاً رمت بها ، وإذا ولدت ابناً ضَمّته ، فإذا كان يوم القيامة { سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ } ، وتوجيه السؤال لها لتسليتها ، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها ، وإسقاطه عن درجة الخطاب ، والمبالغة في تبكيته . وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين لا يُعذّبون ، وأنَّ التعذيب لا يكون بغير ذنب . { وإِذا الصُحفُ نُشِرَتْ } أي : صُحف الأعمال ، فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب ، قال صلى الله عليه وسلم : " يُحشرُ الناس يوم القيامةِ حُفَاةً عراة " فقالت أمُ سلمة : فكيف بالنساء ؟ ! فقال : " شُغِل الناسُ يا أم سلمة " فقالت : وما شغلهم ؟ فقال : " نَشْرُ الصُّحُفِ ، فيها مثاقيلُ الذرِّ ، ومثاقيلِ الخَرْدل " وقيل : نُشرت : فُرقت على أصحابها ، وعن مرثد بن وَداعة : إذا كان يوم القيامة تطايرت الصُحف من تحت العرش ، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية ، وتقع صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم ، أي : مكتوب فيها ذلك ، وهذه صحف غير الأعمال . { وإِذا السماءُ كُشِطَتْ } ، قُطعت وأزيلت ، كما يُكشط الجلد عن الذبيحة ، والغطاء عن الشيء المستور ، { وإِذا الجحيمُ سُعِّرتْ } أي : أوقدت إيقاداً شديداً ، غضباً على العصاة ، { وإِذا الجنة أُزْلِفَتْ } أي : قُربت من المتقين ، كقوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } [ قَ : 31 ] . عن ابن عباس رضي الله عنه : إن هذه ثِنتا عشرة خصلة ، ستٌّ في الدنيا ، فيما بين النفختين ، وهن من أول السورة إلى قوله تعالى : { وإذا البحار سُجرتْ } على أنَّ المراد بحشر الوحوش : جمعها من كل ناحية ، لا حشرها للقصاص ، وستٌّ في الآخرة ، أي : بعد النفخة الثانية . والمشهور من أخبار البعث : أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث ، فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر ، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت ، والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها ، وأمّا الجبال ففيها اختلاف حسبما تقدّم ، وأمّا العِشار فلا يتصور إهمالها إلاَّ بعد بعث أهلها . وقوله تعالى : { علمتْ نفس ما أحضرت } : جواب " إذا " ، على أنَّ المراد زمان واحد ممتد ، يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال ، مبدؤه ، النفخة الأولى ، ومنتهاه : فصل القضاء بين الخلائق ، أي : تيقنت كلُّ نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر ، والمراد بحضورها : إمّا حضور صحائفها ، كما يُعرب عنه نشرُها ، وإمّا حضور أنفسها ، على أنها تُشكّل بصورة مناسبة لها في الحُسن والقُبح ، وعلى ذلك حمل قوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ التوبة : 49 ، العنكبوت : 54 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَى … } [ النساء : 10 ] ، الآية ، وقوله عليه السلام في حق مَن يشرب في آنية الذهب : " إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " ولا بُعد في ذلك ، ألا ترى أنَّ العِلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن ، كما لا يخفى على مَن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس ، وقد رُوي عن عباس رضي الله عنه أنه قال : " يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة ، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة ، فتوضع في الميزان " ، وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله عزّ وجل ، كما نطق به قوله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً … } [ آل عمران : 30 ] الآية لأنها لمّا عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ، ومعنى علمها بها حنيئذ : أنها تُشاهد جزاءها ، خيراً كان أو شرًّا . الإشارة : اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمسمَّى واحد ، وهو اللطيفة اللاهوتية السارية في الأبدان ، فما دامت تميل إلى المخالفة والهوى سُميت نفساً ، فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة سُميت روحاً فإذا تزكّت وأشرقت عليها أسرار الذات سُميت سرًّا ، فالإشارة في قوله : { إذا الشمس كُورت } إلى تكوير النفس وطيها ، حين انتقلت إلى مرتبة الروح ، وإذا النجوم : نجوم علم الرسوم ، انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان ، فلم يبقَ منها للعارف إلاّ ما يحتاج إليه من إقامة رسم العبودية ، يعني يقع الاستغناء عنها ، فإذا تنزل إليها حققها أكثر من غيره ، إذا الجبال جبال العقل ، سُيرت لأنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس ، وإذا العِشارُ عُطلتْ ، أي : النفوس الحاملة أثقال الأعمال والأحوال ، وأعباء التدبير والاختيار ، فيقع الغيبة عنها بأثقالها وإذا الوحوش ، أي : الخواطر الردية حُشرتْ وغرقتْ في بحر الأحدية ، وإذا البحارُ بحار الأحدية سُجرتْ ، أي : فُجرت وانطبقت على الوجود ، فصارت بحراً واحداً متصلاً أوله بآخره ، وظاهره بباطنه ، وإذا النفوس ، أي : الأرواح ، زُوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد الفناء ، على سُرر التقريب والاجتباء . وقال سهل : تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح ، ففرحت في نعيم الجنة ، كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر . هـ . وإذا الموؤودة سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ ، أي : فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء فيها ، حتى انصرفت إلى التفكُّر في خوضها ، وتدبير شؤونها ، فتُسأل بأي ذنب قُتلت حتى تعطّلت فكرتها في أسرار التوحيد ؟ وقال القشيري : هي الأعمال المشوبة بالرياء ، المخلوطة بالسمعة والهوى . هـ . وإذا الصُحف الواردات الإلهية نُشرتْ على القلوب القدسية ، فظهرت أنوارُها على الألسنة بالعلوم اللدنية ، وعلى الجوارح بالأخلاق السنية ، وإذا السماءُ كُشطتْ ، إي سماء الحس تكشطت عن أسرار المعاني ، وإذا الجحيم ، نار القطيعة ، سُعّرتْ لأهل الفرق ، وإذا الجنة جنة المعارف ، أُزلفت لأهل الجمع والوصال ، علمت نفس ما أحضرت من المجاهدة عند كشف أنوار المشاهدة . وبالله التوفيق . ثم أقسم تعالى على حقيّة القرآن ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } .