Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 84, Ayat: 16-25)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { فلا أُقسم بالشفقِ } وهي الحُمرة التي تُشاهد في أفق المغرب بعد الغروب ، أو : البياض الذي يليها ، سمي به لرقَّته ، ومنه : الشفقة التي هي رقة القلب . { والليلِ وما وَسَقَ } وما جمع وضمَّ ، يقال : وسقه فاتسق ، أي : جمعه فاجتمع ، أي : وما جمعه من الدواب وغيرها ، أو : ما جمعه من الظلمة والكواكب ، وما عمل فيه من التهجد ، { والقمرِ إِذا اتَّسَقَ } أي : اجتمع ضوؤه وتمّ نوره ليلة أربع عشرة . { لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق } لتُلاقُن حالاً بعد حال ، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدّة والفظاعة كأحوال شدائد الموت ، ثم القبر ، ثم البعث ، ثم الحشر ، ثم الحساب ، ثم الميزان ، ثم الصراط . أو : حالاً بعد حال ، النطفة ، ثم العلقة ، ثم المضغة ، ثم الجنين ، ثم الخروج إلى الدنيا ، ثم الطفولة ، ثم الكهولة ، ثم الشيخوخة ، ثم الهرم ، ثم الموت … وما ذكر بعده آنفاً إلى دخول الجنة أو النار . وقال بعض الحكماء : يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يَهرم على نيف وثلاثين اسماً : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاماً ، ثم خلقاً آخر ، ثم جنيناً ، ثم وليداً ، ثم رضيعاً ، ثم فطيماً ، ثم يافعاً ، ثم ناشئاً ، ثم مترعرعاً ، ثم مزوِّراً ، ثم مراهقاً ، ثم محتلماً ، ثم بالغاً ، ثم حَمَلاً ، ثم ملتحياً ، ثم مستوفياً ، ثم مصعَداً ، ثم مجتمعاً والشباب يجمع ذلك ثم مَلْهوراً ، ثم كهلاً ، ثم أشمط ، ثم شيخاً ، ثم أشيب ، ثم حَوْقلاً ، ثم مُقتاتاً ، ثم هما ، ثم هرماً ، ثم ميتاً . وهذا معنى قوله : { لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق } . هـ . من الثعلبي . أو : لتركبن سنن مَن قبلكم ، حالاً بعد حال . هذا على مَن قرأ بضم الباء ، وأمّا مَن قرأ بفتحها فالخطاب إمّا للإنسان المتقدم ، فيجري فيه ما تقدّم ، أو : للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي : لتركبَن مكابدة الكفار حالاً بعد حال ، أو : لتركبَن فتح البلاد شيئاً بعد شيء ، أو : لتركبَن السماوات في الإسراء ، سماء بعد سماء . أو : لتركبَن أحوال أيامك ، حالاً بعد حال ، حال البعثه ، ثم حال الدعوة ، ثم حال الهجرة ، ثم حال الجهاد وفتح البلاد ، ثم حال الحج وتوديع العباد ، ثم حال الرحيل إلى دار المقام ، ثم حال الشفاعة ، ثم حال المقام في دار الكرامة . فالطبق في اللغة يُطلق على الحال ، كما قال الشاعر : @ الصبر أجمل والدنيا مفجعة ٌ مَن ذا الذي لم يزوّر عيشه رنقا إذا صفا لك من مسرورها طبق أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا _ @@ ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق الأرض ، أي : ملأها ، ومنمهم قول العباس في النبي صلى الله عليه وسلم : @ تَنقَّل من صَالبٍ إلى رَحمٍ إذا مَضَى عَالمٌ بَدَا طَبَقُ @@ ومحل عن طبق : النصب ، على أنه صفة لطبق ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو : حال من الضمير في " لتركبن " أي : مجاوزين لطبق . { فما لهم لا يؤمنون } ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، من أحوال يوم القيامة وأهوالها ، أي : إذا كان الأمر يوم القيامة كما ذكر ، فأيّ شيء حصل لهم حال كونهم غير مؤمنين ، أي : أيّ شيء يمنعهم من الإيمان ، وقد تعاضدت موجباته ؟ { وإِذا قُرىءَ عليهم القرآنُ لا يسجدون } ولا يخضعون ، وهي أيضاً جملة حالية ، نسقاً على ما قبلها ، أي : أيّ : مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن ؟ . قيل : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } [ العلق : 19 ] فسجد هو ومَن معه من المؤمنين ، وقريش تُصَفِّق فوق رؤوسهم وتُصفِّر ، فنزلت . وبه احتجّ أبو حنيفة على وجوب السجدة وعن ابن عباس : " ليس في المفصل سجدة " ، وبه قال مالك . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد فيها ، وقال : " والله ما سجدت إلاّ بعد أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها " ، وعن أنس رضي الله عنه : " صليتُ خلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فسجدوا " . ولعلهم لم يبلغهم نسخ سجدتها . { بل الذين كفروا يُكذّبون } بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها ، مع تحقُّق موجبات تصديقهم ، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته { واللهُ أعلم بما يُوعدون } بما يُضمرون في قلوبهم ، ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء ، أو : بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء ، ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب ، { فبشَّرهم بعذابٍ أليمٍ } أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم ، { إِلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات } ، استثناء منقطع ، { لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ } غير مقطوع ، أو غير ممنونٍ به . الإشارة : أقسم تعالى بنور بداية الإيمان ونهايته ، وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع العُمال ، فقال تعالى " فلا أُقسم بالشفق " بنور بداية الإيمان ، الذي هو كبياض الشفق ، " والليل وما وسق " وليل الحجاب ، وما اشتمل عليه من العُبّاد والزُهّاد والأبرار والعلماء الأتقياء ، وقمر الإيمان إذا جنح نوره ، وقَوِيَ دليله " لتَركبُن " أيها السالكون ، طبقاً عن طبق حالاً بعد حال ، حتى تنتهوا إلى شمس العيان ، فأول الأحوال : حال التوبة ، ثم حال اليقظة ، ثم حال المجاهدة في خرق عوائد النفس ، ثم حال المراقبة ، ثم حال الاستشراف ، على الحضرة ، ثم حال المشاهدة ، ثم حال المعاينة ، ثم حال المكالمة ، ثم حال الترقِّي إلى ما لا نهاية له . فما لهم ، أي : لأهل الإنكار ، لا يؤمنون بسلوك هذا الطريق ، وإذا قُرىء عليهم القرآن الدالّ على هذا المنهاج لا يخضعون ولا يتدبرونه حق تدبيره ، بل الذين كفروا بطريق الخصوص ، يُكّبون بها . والله أعلم بما يوعون في قلوبهم من الأمراض والعيوب ، أو من الإنكار فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب ، إلاَّ الذين آمنوا وصدّقوا بطريق الخصوص ، وسَلَكوها معهم ، لهم آجر ، وهو مقام الشهود ، غير ممنون غير مقطوع ، بل تترادف الأنوار والأسرار والكشوفات إلى غير نهاية ، أو : غير ممنون به ، بل مواهب من الله بلا مِنّة . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .