Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 84, Ayat: 6-15)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { يا أيها الإِنسانُ } خطاب الجنس { إِنك كادِحٌ إِلى ربك كَدْحاً فمُلاقِيهِ } أي : جاهدٌ جادٌّ في السير إلى ربك . فالكدح في اللغة : الجد والاجتهاد ، أي : إنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك ، لأنَّ الزمان يطير طيراً وأنت في كل لحظة تقطع حظًّا من عمرك القصير ، فإنك سائر مسرع إلى الموت ، ثم تلاقي ربك . قال الطيبي عن الإمام : في الآية نكتة لطيفة ، وهي : أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية ، ويحصل بعد ذلك محض سعادته وراحته الأبدية . هـ . قلتُ : إن كان كدحه في طلب مولاه حصل له بعد موته دوام الوصال ، وصار إلى روح وريحان ، وجنات ورضوان ، وإن كان كدحه في طلب الحُور والقصور ، بُشّر بدوام السرور ، وربما اتصلت روحه بما كان يتمنى ، وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه ، وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير ، انتقل من تعب إلى تعبٍ والعياذ بالله . وقال أبو بكر بن طاهر : إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد الأعلى ، فاجتهد ألاَّ تخجَل من معاملتك مع خالقك . أهـ . ثم فصّل ما يلقى بعد اللقاء فقال : { فأمّا مَن أوتي كتابه بيمينه } أي : كتاب عمله { فسوف يُحاسب حساباً يسيراً } سهلاً هيناْ ، وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات . وفي الحديث : " مَن يحاسَب عُذِّب " فقيل له : فأين قوله تعالى : { فسوف يُحاسب حساباً يسيراً } فقال : " ذلكم العرض ، مَن نُوقش الحساب عُذِّب " والعرض : أن يُقال له : فعلتَ كذا وفعلتَ كذا ، ثم يُقال له : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم . { وينقلبُ إِلى أهله } أي : إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين ، أو : إلى فريق المؤمنين ، أو : إلى أهله في الجنة من الآدمية أو الحور والغلمان ، أو : إلى مَن سبقه من أهله أو عشيرته ، إن قلنا : إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في البرزخ ، فإنَّ الأرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها ، حسبما تقدّم في الواقعة . وقوله تعالى : { مسروراً } أي : مبتهجاً بحاله ، قائلاً : { هَآؤُمُ ٱقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] أو : مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله . تنبيه : الناس في الحساب على أقسام ، منهم مَن لا حساب عليهم ولا عتاب ، وهم العارفون المقربون ، أهل الفناء في الذات ومنهم مَن يُحاسب حساباً يسيراً ، وهم الصالحون الأبرار ، ومنهم مَن يُناقش ويُعذِّب ثم ينجو بالشفاعة ، وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد ، ومنهم مَن يُناقش ويخلد في العذاب ، وهم الكفرة ، وإليهم أشار بقوله : { وأمّا مَن أُوتي كتابَه وراء ظهره } ، قيل : تغلّ يُمناه إلى عنقه ، وتُجعل شماله وراء ظهره . وقيل : يثقب صدره وتخرج منه إلى ظهره ، فيعطى كتابه بها وراء ظهره ، { فسوف يَدعو ثبُوراً } يقول : واثبوراه . والثبور : الهلاك ، { ويَصْلَى سعيراً } أي : يدخلها ، { إِنه كان } في الدنيا { في أهله } أي : معهم { مسروراً } بالكفر ، يضحك على مَن آمن بالبعث . وقيل : كان لنفسه متابعاً ، وفي هواه راتعاً ، { إِنه ظنّ أن لن يَحُورَ } لن يرجع إلى ربه ، تكذيباً بالبعث . قال ابن عباس : ما عرفتُ تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها : حُوري . أي : ارجعي . { بلى } جواب النفي ، أي : يرجع لا محالة ، { إِنَّ ربه كان به بصيراً } أي : إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء " بصيراً " بحيث لا تخفى عليه منها خافية ، فلا بد من رجعه وحسابه عليها حتماً . الإشارة : يا أيها الإنسان الطالب الوصول ، إنك كادح إلى ربك كدحاً بالمجاهدة والمكابدة فمُلاقيه بالمشاهدة المعاينة في مقام الفناء والبقاء ، فأمّا مَن أُوتي كتابه السابق له في الأزل " بيمينه " بكونه من أهل اليمين والسعادة " فسوف يُحاسب حساباً يسيراً " فيُؤدب في الدنيا إن وقع منه سوء أدب ، " وينقلب إلى أهله " إخوانه في الله " مسروراً " بوصوله إلى مولاه . قال الورتجبي : مسروراً بلقاء ربه ، وما نال من قُربه ووصاله ، وهذا للمتوسطين ، ومَن بلغ إلى حقيقة الوصال وصار أهلاً له لا ينقلب عنه إلى غيره . هـ . وأمّا مَن أُوتي كتابه السابق بخذلانه في الأزل ، وراء ظهره ، بحيث غفل عن التوجه إلى الله ، واتخذه وراء ظهره ، فسوف يدعو ثبوراً ، فيتمنى يوم القيامة أن لم يكن شيئاً ويصلى سعير القطيعة والبُعد إنه كان في أهله مسروراً منبسطاً في الدنيا ، مواجَهاً بالجمال من أهله وعشيرته ، ليس له مَن يؤذيه ، وهذا من علامة الاستدراج ، ولذلك لا تجد وليًّا إلاَّ وله مَن يُؤذيه ، يُحركه إلى ربه ، قال بعض الصوفية : قَلَّ أن تجد وليًّا إلاَّ وتحته امرأة تؤذيه . هـ . " إنه " أي : الجاهل ظنّ أن لن يحور إلى ربه في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يرده اللهُ ويُحاسبه على النقير والقطمير ، إنه كان به بصيراً بظاهره وباطنه . ثم أقسم على رجوعهم إليه ، فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ } .