Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 87, Ayat: 1-8)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { سَبّح اسمَ ربك } أي : نزّه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه ، بالتأويلات الزائغة ، وعن إطلاقه على غيره بوجهٍ يوجب الاشتراك في معناه ، فلا يُسمى به صنم ولا وثن ولا شيء مما سواه تعالى ، قال تعالى : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] فلا يُقال لغيره تعالى : رب وإله ، وإذا كان أَمَر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى ، أو : نزّه اسمه عن ذكره لا على وجه الإجلال والإعظام ، أو : نزّه ذاته المقدَّسة عما لا يليق بها ، فيكون " اسم " صلة . و " الأعلى " صفة لرب ، وهو الأظهر . وعُلوه تعالى : قهريته واقتداره ، أو : تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول ، فلا يُحيط به وصف واصف أو علم عارف ، لا علو مكان . أو صفة للاسم ، وعلوه بعلو مسماه ، وقيل : قل : سبحان ربي الأعلى . لمّا نزل : { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ 74 } [ الواقعة : 74 ] قال صلى الله عليه وسلم : " اجعلوه في ركوعكم " فلما نزل : { سبح اسم ربك الأعلى } قال : " اجعلوه في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع : لك ركعت ، وفي السجود : لك سجدت ، فجعلوا هذا مكانه . { الذي خلق فسَوَّى } أي : خلق كل شيء فسَوَّى خلقه ، ولم يأتِ به متفاوتاً غير متلائم ، ولكن على إحكام وإتقان ، دلالةً على أنه صادر عن عالم حكيم ، أو : سَوَّاه على ما يتأتى به كماله ويتيسّر به معاشه ، { والذي قَدَّر فهدى } أي : قّدَّر الأشياء في أزله ، فهدى كل واحد إلى ما سبق له من شقاوة وسعادة ، ورزقٍ وأجل ، أو : ما قَدَّر لكل حيوان ما يُصلحه ، فهداه إليه ، وعرَّفه وجه الانتفاع به ، فترى الولد بمجرد خروجه من بطن أمه يلتمس غذاه ، وكذا سائر الحيوانات ، فسبحان المدبِّر الحكيم : { الذي أخرج المرعى } أي : أنبت ما ترعاه الدواب غضًّا طريًّا ، { فجعله } بعد ذلك { غُثاءً } يابساً هشيماً { أحوى } أسود ، فـ " أحوى " صفة لغُثاء ، وقيل : حال من المرعى ، أي : أخرجه أحوى من شدة الخضرة ، فمضت مدة ، فجعله غثاءً يابساً . وهذه الجمل الثلاث صفة للرب . ولمّا تغايرت الصفات وتباينت أتى لكل صفة بموصول . وعطف على كل صلة ما يترتب عليها . { سنُقرئك فلا تنسى } أي : سنعلمك القرآن فلا تنساه ، وهو بيان لهدايته تعالى الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم ، إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته ، وهي هدايته صلى الله عليه وسلم لتلقي الوحي ، وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين ، مع ضمانه له . والسين إمّا للتأكيد ، وإمّا لأنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئذٍ وما سيوحى إليه ، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء ، أي : سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام ، أو : سنجعلك قارئاً فلا تنسى أصلاً ، من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أُمِّي لا تدري ما الكتاب وما القراءة ، ليكون ذلك آية أخرى لك مع ما في تضاعيف ما تقرأ من الآيات البينات من حيث الإعجاز ، ومن حيث الإخبار بالمغيبات . وقوله تعالى : { إلاَّ ماشاء اللهُ } : استثناء مفرغ من أعم المفاعيل ، أي : فلا تنسى شيئاً من الأشياء إلاَّ ما شاء الله أن تنساه بأن ننسخ تلاوته ، وهذا إشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي ، فلا يتفلت منه شيءٌ ، إلاَّ ما شاء الله نسخه ، فيذهب به عن حفظه ، ويرفع حُكمه وتلاوته . قال الكواشي : إلاَّ ما شاء اللهُ أن ننسيكه على سبيل النسخ ، أو تنساه ثم تذكره بعد . رُوي أنه صلى الله عليه وسلم أسقط آية في الصلاة ، فظنّ أُبي أنها نُسخت ، فسأله ، فقال : " نسيتها " ، قال الشيخ السنوسي : والمحققون على منع النسيان لشيءٍ من الأقوال البلاغية قبل التبليغ ، لإجماع السلف ، وأما بعد التبليغ ، فجائز لأنه من الأعراض البشرية . هـ . وفي الحديث : " إنما أنا بشَرٌ ، أنسى كما تَنْسَوْن ، فإذا نسيتُ فذكِّروني " الحديث . فالسهو في حق الأنبياء جائز ، لأنه من قهرية الربوبية ، لتتميز به العبودية من الربوبية ، فليس بنقصٍ في حقهم ، بل كما ، ليحصل التشريع والاقتداء . وقيل : " لا " ناهية ، وإثبات الألف للفاصلة ، كقوله : { ٱلسَّبِيلاْ } [ الأحزاب : 67 ] أي : لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه ، إلاَّ ما شاء الله أن ينسيك برفع تلاوته ، وهو ضعيف . { إِنه يعلم الجهرَ وما يخفى } أي : يعلم ما ظهر وما بطن ، التي من جملتها ما أوحى إليك ، فينسى ما شاء اللهُ إنساءه ، ويبقى محفوظاً ما شاء إبقاءه ، أو : يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلُّت ، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر ، أو : ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، وما تجهر به ، أو : يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم ، وما ظهر وما بطن من أحوالكم . قال الورتجبي : السر والعلانية عنده تعالى سواء ، إذا هو يبصرهما ببصره القديم ، ويعلمهما بالعلم القديم ، وليس في القِدم نقص ، بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن إذ هناك الظاهر هو الباطن ، والباطن هو الظاهر لأنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته ، والباطن من باطنيته . هـ . { ونُيسّرك لليُسرى } ، معطوف على " سنقرئك " وما بينهما اعتراض ، أي : ونوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل ، وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع ، أو : نوفّقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين ، علماً وتعليماً ، هداية واهتداءً ، فيندرج فيه تلقي الوحي والإطاحة بما فيه من الأحكام التشريعية السمحة ، والنواميس الإلهية ، مما يتعلق بتكميل نفس صلى الله عليه وسلم وتكميل غيره ، كما يفصح عنه قوله : { فذَكِّر … } الخ . وتخصيص التيسير به عليه السلام ، مع أنه يسري إلى غيره ، للإيذان بقوة تمكنه صلى الله عليه وسلم من اليسرى والتصرُّف فيها ، بحيث صار ذلك ملكة راسخة له ، كأنه عليه السلام جُبل عليها . قاله أبو السعود . الإشارة : نزِّه ربك أن ترى معه غيره ، وقدِّسه عن الحلول والاتحاد ، قال القشيري : أي : سبِّح ربك بمعرفة أسمائه واسبَح بسرّك في بحر عطائه ، واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به عند مدحه من ثنائه . هـ . قال الورتجبي : أي : نزِّه اسمه عن أن يكون له سميًّا ، من العرش إلى الثرى ، حتى يكون بقدس اسمه مقدساً عن رؤية الأغيار ، ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس الصفات ، ثم إلى رؤية قدس الذات . هـ . الأعلى فوق كل شيء ، والقريب دون كل شيء ، فهو عليٌّ في قربه ، قريب في علوه ، ليس فوقه شيء ، وليس دونه شيء ، الذي خلق أظهر الأشياءَ فسوَّى صورتها ، وأتقن خلقها . والذي قدّر المراتب ، فهدى إلى أسباب الوصول إليها ، والذي أخرج المرعى ، أي : ما ترعى في بهجته وحسن طلعته الأرواح من مظاهر الذات ، وأنوار الصفات ، فجعله غثاءً أحوى ، فتلوّن من طلعة الجمال إلى قهرية الجلال . قال القشيري : أخرج المرعى : أي : المراتع الروحانية لأرباب الأرواح والأسرار والقلوب ، لِيَرْعَوا فيها أعشاب المواهب الإلهية والعطايا اللاهوتية ، وأخرج المراتع الجسمانية لأصحاب النفوس الأمَّارة والهوى المتبع ، ليرتعوا فيها من كلأ اللذات الحيوانية الشهوانية . هـ . سنقرك : سنلهمك من العلوم والأسرار ما تعجز عنه العقول ، فلا تنسى ، إلاّ ما شاء اللهُ أن تنساه ، إنه يعلم الجهر ، أي : ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم ، وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله . ونُيسرك للطريقة اليُسرى ، التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى . قال القشيري : أي : طريق السلوك إلى الله وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين . هـ . فحينئذ تصلح للدعاء إلى الله والتذكير به ، كما قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } .