Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 87, Ayat: 9-19)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { فَذَكِّرْ } الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق ، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية كما كنت تفعل ، أي : دُم على تذكيرك . وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم ، حرصاً على إيمانهم ، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلاَّ نفوراً ، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة ، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر ، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً ، ممن طَبع اللهُ على قلبه ، فهو كقوله : { فَذَكِّرْ بِٱلْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ قَ : 45 ] وقوله تعالى : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا } [ النجم : 29 ] وقيل المعنى : ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع ، فحذف المقابل ، كقوله : { تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ، واستبعده ابن جُزي لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم ، كقوله : عظ زيد إن سمع منك ، تريد : إن سماعه بعيد ، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق ، قلت : الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها ، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه ، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً ، والقرائن تكفي في ذلك . { سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى } سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى { ويَتجنَّبُها } أي : يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها { الأشقى } الذي سبق له الشقاء أو : أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم . قيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة . { الذي يَصْلَى النارَ الكبرى } أي : الطبقة السفلى من طبقات جهنم ، وقيل : الكبرى نار جهنم ، والصغرى : نار الدنيا ، لقوله عليه السلام : " ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم " ، { ثم لا يموتُ فيها } حتى يستريح { ولا يحيا } حياة تنفعه ، و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ . { قد أفلحَ } أي : نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه { مَن تَزَكَّى } أي : تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك ، { وذَكَرَ اسمَ ربه } بقلبه ولسانه { فصَلَّى } أقام الصلوات الخمس ، أو : أفلح مَن زكَّى ماله ، وذكر الله في صلاته ، كقوله : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] فيكون تفعَّل من الزكاة ، أو : أفلح مَن تزكّى : أخرج زكاة الفطر وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام ، فصَلّى صلاةَ العيد ، وقد روي هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فتكون الآية مدنية ، أو : إخباراً بما سيكون ، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر ، ولا صلاة العيد إلاَّ بالمدينة . { بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا } على الآخرة ، فلا تفعلون ما به تفلحون ، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح : فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية ، فتسعون لتحصِيلها وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة ، { والآخرةُ خير وأبقى } أي : خير في نفسها ، لنفاسة نعيمها ، وخلوصه من شوائب التكدير ، وأدوم لا انصرام له ولا تمام . والخطاب للكفرة . بدليل قراءة الغيب ، وإيثارها حينئذ : نسيانها بالكلية ، والإعراض عنها ، أو : للكل ، فالمراد بإيثارها : هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً ، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي ، إلاّ القليل . قال الغزالي : إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ، قَلَّ مَن ينفك عنه ، ولذلك قال تعالى : { بل تؤثرون الحياة الدنيا } . وجملة : { والآخرة … } الخ : حال من فاعل { تُؤثرون } مؤكد للتوبيخ والعتاب ، أ ي : تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى ، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والأمر بالعكس . هـ . وقوله تعالى : { إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى } الإشارة إلى قوله : { قد أفلح مَن تزكّى } إلى قوله : { وأبقى } ، قال ابن جزي : الإشارة إلى ما ذكر قبل من الترهيب من الدنيا ، والترغيب في الآخرة ، أو : إلى ما تضمنته السورة ، أو : إلى القرآن ، والمعنى : إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين . هـ . وقوله تعالى : { صحف إِبراهيمَ وموسى } بدل من " الصُحف الأُولى " . وفي حديث أبي ذر : " قلت : يا رسول الله : كم كتاباً أنزل اللهُ ؟ قال : " مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف ، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " قال : قلت : يا رسول الله : ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام ؟ قال : " كانت أمثالاً كلها ، أيها الملك المسلّط المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو من كافر . وكان فيها : وعلى العاقل أن تكون له ساعات ، ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يُحاسب فيها نفسه ، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب . وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث : تزور لمعاد ، أو مرمة لمعاش ، أو لذة في غير محرم . وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، ومَن حسب كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه " قلت : يا رسول الله فما كانت صُحف موسى عليه السلام ؟ قال : " كانت عِبَراً كلها عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب أي يتعب ، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها ، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل " قلت : يا رسولَ الله وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى ، مما أنزل الله عليك ، قال : " نعم ، اقرأ يا أبا ذر : { قد أفلح مَن تزكى … } الآية إلى السورة " ثم قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني . قال : " أوصيك بتقوى الله عزّ وجل ، فإنه رأس أمرك " قلت : زدني ، قال : " عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عزّ وجل ، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض " قلت : يا رسول الله زدني ، قال : " إياك وكثرة الضحك ، فإنه يُميت القلب ، ويذهب بنور الوجه " ، قلت : يا رسول الله زدني قال : " عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية أمتي " ، قلت : يا رسول الله زدني ، قال : " عليك بالصمت إلاَّ مِن خير ، فإنه مطردة للشيطان ، وعون لك على أمر دنياك " هـ . وعن كعب الأحبار أنه قال : قرأتُ في العشر صحف التي أنزل ا للهُ على موسى عليه السلام سبعة اسطار متصلة ، أول سطر منها : مَن أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على الله ، الثاني : مَن كانت الدنيا أكبر همه نزع اللهُ خوف الآخرة من قلبه ، الثالث : مَن شكى مصيبة نزلت به كأنما شكى الله عزّ وجل ، الرابع : مَن تواضع لِمَلِك مِن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه ، الخامس : مَن لا يبالي من أي الأبواب أتاه رزقه لم يُبال اللهُ من أي أبواب جهنم يدخله يعني من حلال أو حرام ، السادس : مَن أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي ، والسابع : مَن جعل حاجته إلى آدمي جعل اللهُ الفقر بين عينيه . هـ . الإشارة : فَذكِّرْ أيها العارف الدالّ على الله إن نفعت الذكرى إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك ، فإن تحققتَ عدم النفع فلا تتعب نفسك في التذكير ، فربما يكون بطالة ، كتذكير العدو الحاسد لك ، أو المعاند ، أو المنهمك في حب الرياسة ، فتذكير هؤلاء ضرب في حديد بارد . وينبغي للمذَكِّر أن يكون ذا سياسة وملاطفة ، قال تعالى : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ … } [ النحل : 125 ] الخ ، والحكمة : هي أن تٌقر كلَّ واحد في حكمته ، وتدسه منها إلى ربه ، فأهل الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد الله ، وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على بَذلها ، وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على الإخلاص وبذل المجهود في نشره ، وأهل الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر … وهكذا ، فإن رأيتَ أحداً تشوّف إلى مقام أعلى مما هو فيه فدُلّه عليه ، وأهل التذكير لهم عند الله جاه كبير ، فأحَبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ، كما في الحديث . وفي حديث آخر : " إنَّ أود الأوداء إليَّ مَن يحببني إلى عبادي ، ويحبِّب عبادي إليّ ، ويمشي في الأرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السلام : { سَيذَّكَّر مَن يخشى } أي : ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله ، وسبقت له العناية ، ويتجنّبها الأشقى : أي : ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء . قال القشيري : الشقي : مَن يعرف شقاوته ، والأشقى : مَن لا يعرف شقاوته ، الذي يصلى النار الكبرى ، وهي الخذلان والطرد والهجران ، والنار الصغرى : تتبع الحظوظ والشهوات . هـ . ثم لا يموت فيها ولا يحيى ، أي : لا تموت نفسه عن هذا ، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء . قد أفلح مَن تَزَكَّى ، أي : فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه ، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات ، وقلبه من الغفلات والدعوات ، وروحه من المساكنات إلى الغير ، وسره عن الأنانية ، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية ، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى ، وهذا الأمر ، وهو التزهيد في الدنيا ، والتشويق إلى الله ، في صُحف الرسل والأنبياء ، قال القشيري : لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع . هـ . وقال الورتجبي : إنَّ هذا أي : الخروج عما سوى الله بنعت التجريد ، في صحف إبراهيم ، كما قال : { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 78 ] والإقبال على الله ، بقوله : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } [ الأنعام : 79 ] الخ . وفي صحف موسى : سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات : بقوله : { تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الأعراف : 143 ] . هـ . أي : وبقوله : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ } [ طه : 84 ] . وبالله التوفيق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .