Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 88, Ayat: 1-7)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { هل أتاك حديثُ الغاشيةِ } أي : قد أتاك ، والأحسن : أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه ، والتشويق إلى استماعه ، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية ، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد . والغاشية : الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها ، من قوله تعالى : { يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ } [ العنكبوت : 55 ] الخ . ثم فصّل أحوالَ الناس فيها ، فقال : { وجوه يومئذٍ خاشعةٌ } ، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم ، كأنه قيل : ما أتاني حديثها فما هو ؟ فقال : { وجوه يومئذ } أي : يوم إذ غشيت { خاشعة } ذليلة ، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان ، و { وجوه } متبدأ ، سوّغه التنويع ، وخاشعة خبر ، و { عاملة ناصبة } : خبران آخران ، أي : تعمل أعمالاً شاقة في النار ، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال ، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل ، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها ، وقيل : عملت في الدنيا أعمال السوء ، والتذّت بها ، فهي يومئذ ناصبة منها ، { تَصلى } أي : تدخل { ناراً حامية } متناهية في الحر مُدداً طويلة ، { تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ } أي : من عين ماء متناهية في الحرّ ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه ، والمراد أصحابها ، بدليل قوله : { ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع } ، وهو نبت يقال لِرَطْبِه : الشَّبرِق على وزن زِبْرج ، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته ، وهو الضريع ، وهم سمٌّ قاتل ، وفي الحديث : " الضريع شيء في النار ، أمرُّ من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشد حَرًّا من النار " ، وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون منه ويذلّون ، ويتضرعون إلى الله تعالى طلباً للخلاص منه . وقال أبو الدرداء والحسن : يقبح اللهُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة ، تشبيهاً بأعمالهم الخسيسة في الدنيا ، وإنَّ الله تعالى يُرسل على أهل النار الجوع حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون ، فيُغاثون بالضريع ، ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غُصّة ، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء ، فيستسقون ، فيعطشهم ألف سنة ، ثم يسقون من غين آنية شديدة الحر ، لا هنيئة ولا مريئة ، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها ، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها ، قال تعالى : { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [ محمد : 15 ] هـ . والعذاب ألوان ، والمعذّبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم ، ومنهم أكلة الغسلين ، ومنهم آكلة الضريع … فلا تناقض . ولمَّا نزلت هذه الآية قال المشركون : إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع ، فنزلت : { لا يُسمن ولا يُغني من جوع } أي : ليس مِن شأنه الإسمان والإشباع ، كما هو شأن طعام أهل الدنيا ، وأنما هو شيء يضطرون إلى أكله دفعاً لضرورتهم ، والعياذ بالله من سخطه . الإشارة : الغاشية هي الدنيا ، غشيت القلوب بظلمات محبتها ، ومودتها بحظوظها وشهواتها ، وجوه فيها يومئذ خاشعة ، بذُلّ طلبها ، عاملة بالليل والنهار في تحصيلها ، ناصبة في تدبير شؤونها ، لا راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت بعُنقه ، تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين حر التدبير والاختيار ، ليس لطُلابها طعام لقلوبهم وأرواحهم إلاّ من ضريع شبهاتها أو حُرماتها ، لا يُسمن القلب عن هزال طلبها ، بل كلما زاد منها شيئاً ، زاد جوعه إليها ، ولا يغني الروح من جوع منها . ثم ثنَّى بأضدادهم ، فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } .