Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 88, Ayat: 8-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله في بيان حال أهل الجنة ، بعد بيان حال أهل النار ، ولم يعطفهم عليهم ، بل أتى بالجملة استئنافية إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما ، فقال : { وجوه يومئذٍ ناعمةٌ } أي : ذات بهجة وحُسن ، كقوله تعالى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ 24 } [ المطففين : 24 ] ، { لسعيها راضية } أي : لأجل سعيها في الدنيا هي راضية في الآخرة بما أعطاها عليه من الثواب الجسيم ، أو : رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب ، { في جنةٍ عالية } علو المكان أو المقدار ، { لا تسمع فيها لاغية } أي : لغو ، أو كلمة ذات لغو ، أو نفسٌ لاغية ، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم ، أو : لا تسمع يا مخاطَب ، فيمن بناه للفاعل . { فيها عين جاريةٌ } أي : عيون كثيرة تجري مياهها ، كقوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] أي : كل نفس ، { فيها سُررٌ مرفوعة } رفيعة السمْك أو المقدار ، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم ، { وأكواب موضوعة } بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها ، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب ، { ونمارقُ } وسائد ومرافق { مصفوفة } بعضها إلى جنب بعض ، بعضها مسندة ، وبعضها مطروحة ، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة ، وأستند إلى أخرى ، { وزرابيّ } أي : بُسُط فاخرة ، جمع " زِرْبيَّة " ، { مبثوثةٌ } مبسوطة ، أو مُفرّقة في المجالس . ولمّا أنزل الله هذه الآيات وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب ، لكثرتها ، وطول النمارق كذا ، وعرض الزاربيِّ كذا ، أنكر المشركون ذلك ، وقالوا : كيف يصعد على هذا السرير ؟ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة ، وتطول النمارق هذا الطول ، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط ، ولم نشهد ذلك في الدنيا ؟ ! ذكَّرهم الله بقوله : { أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت } طويلة عالية ، ثم تبرك حتى تُركب ويحمل عليها ، ثم تقوم ، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها ، أو : أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم ، يستعملونها كل حين ، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات ، في عظم جثتها وشدّة قوتها ، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة ، كالنوْء بالأوقار الثقيلة ، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة ، وفي صبرها على الجوع والعطش ، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً ، واكتفائها باليسير ، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر ، وانقيادها إلى كل صغير وكبير ، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها ، فتبعتها الناقة إلى فم الغار . وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى ، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت ، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار ، وغير ذلك ، والظاهر ما قاله الإمام ، وتبعه الطيبي ، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية ، وأنَّ المخبر بها قادر عليها ، فيتوافق العقل والنقل . هـ . قاله المحشي . { وإِلى السماء كيف رُفعت } رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك ، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك ، { وإِلى الجبال } التي ينزلون في أقطارها ، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها { كيف نُصبت } نصباً رصيناً ، فهي راسخة لا تميل ولا تميد ، { وإِلى الإرض كيف سُطحت } سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق . قال الجلال : وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة ، كما قال أهل الهيئة ، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع . هـ . وفي ابن عرفة ، في قوله تعالى : { يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ … } [ الزمر : 5 ] أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية قال : لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان . هـ . وفي الأبي : الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان . هـ . الإشارة : وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان ، لأجل سعيها بالمجاهدة ، راضية ، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة ، في جنة عالية ، جنان المعارف ، لا تسمع فيها لاغية لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث ، كلامهم ذكر وصمتهم فكر ، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم ، فيها سُرر المقامات مرفوعة ، يرتفعون منها إلى المعرفة ، وأكواب موضوعة كِيسَان شراب الخمرة ، وهي محافل الذكر والمذاكرة ، ونمارق مصفوفة ، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف ، ورموا حِملهم على الحي القيوم ، وزرابي مبثوثة بُسط الأنس في محل القدس ، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة ، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة ، فإنَّ الفكرة سِراج القلب ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له ، وهي سير القلب إلى حضرة الرب ، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت فإنه تجلي غريب ، وإلى السماء كيف رُفعت به ، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته ، وقال : القشيري : الإبل : النفوس الأمّارة ، لقوله عليه السلام : " الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة " هـ وإلى الأرواح كيف رُفعت لأنها محل أفكار العارفين ، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى ، والشريعة من الحقيقة ، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت ، حيث استولت عليها الروحانية ، وتصرفت فيها . ثم حضَّ على التذكير ثانياً ، فقال : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } .