Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 89, Ayat: 21-30)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ } أي : زُلزلت { دَكاً دَكاً } أي : دكاً بعد دكّ ، أي : كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً ، أو قاعاً صفصفاً ، { وجاء ربُّك } أي : تجلّى لفصل قضائه بين عباده ، وعن ابن عباس : أمره وقضاؤه ، { والمَلكُ صفاً صفاً } أي : نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن ، { وجيء يومئذٍ بجهنمَ } ، قيل : بُرِّزت لأهلها ، كقوله : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ 91 } [ الشعراء : 91 ] وقيل : يجاء بها حقيقة ، وفي الحديث : " يؤتى بجهنم يومئذٍ ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها ، حتى تنصب عن يسار العرش لها لغيط وزفير " رواه مسلم . { يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ } أي : يتّعظ ، وهو بدل من إذا دُكت والعامل فيه : يتذكّر أي : إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه ، { وأنَّى له الذِّكْرَى } أي : ومن أين له الذكرى ؟ لفوات وقتها في الدنيا ، { يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي } هذه ، وهي حياة الآخرة ، أي : يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية . { فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ } أي : لا يتولّى عذاب الله أحد لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم ، { ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ } ، قال صاحب الكشف : لايُعدَّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله ، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله . وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء ، بالبناء للمفعول ، قيل : وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره ، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف ، وهو الكافر . وقيل : هو أُبيّ بن خلف ، أي : لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه لتناهيه في كفره وعناده . ثم يقول الله تعالى للمؤمن : { يا أيتها النفسُ } يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة أو على لسان ملك ، { المطمئنةِ } بوجود الله ، أو بذكره ، أو بشهوده ، الواصلة إلى بَلَج اليقين ، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم ، وقيل : المطمئنة ، أي : الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، ويؤيده : قراءة مَن قرأ : يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة . ويقال لها هذا عند البعث ، أو عند تمام الحساب ، أو عند الموت : { ارجعي إِلى ربك } إلى وعده ، أو : إلى إكرامه ، { راضيةً } بما أُوتيت من النعيم { مرضيةً } عند الله عزّ وجل ، { فادخلي في عبادي } أي : في زمرة عبادي الصالحين المخلصين ، وانتظمي في سلكهم ، { وادخلي جنتي } معهم . وقال أبو عبيدة : أي : مع عبادي وبين عبادي . أي : خواصّي ، كما قال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ ٱلصَّالِحِينَ } [ النمل : 19 ] . وقيل : المراد بالنفس : الروح ، أي : وادخلي في أجساد عبادي ، لقراءة ابن مسعود : " في جسد عبادي " ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته فدخل في نعشه ، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره ، ولم يُدْرَ مَن تلاها ، وقيل : نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل : في خُبيْب بن عدي ، الذي صلبه أهلُ مكة والمختار : أنها عامة في المؤمنين إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . الإشارة : إذا دُكت أرض الحس ، باستيلاء المعنى عليها ، أو أرض البشرية ، باستيلاء الروحانية عليها ، دكاً بعد دكٍّ ، بالتدريج والتدريب ، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني ، وجاء ربك ، أي : ظهر وتجلّى للعيان ، والملَك صفاً صفاً ، أي : وجاءت الملائكة صفوفاً ، وجيء يومئذٍ بجهنم ، أي : بنار البُعد لأهل الفرق ، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع ، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره ، يقول : يا ليتني قدمتُ لحياتي رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة ، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته ، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق والشواغل ، ويُقيدهم بقيود البين ، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية : يا أيتها النفس المطمئنة ، التي اطمأنت بشهود الحق ، ودام فناؤها وبقاؤها بالله ، ارجعي إلى ربك إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة ، راضية عن الله في الجلال والجمال ، مرضية عنده في حضرة الكمال ، وعلامة الطمأنينة : أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال ، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد . وقال الورتجبي : النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم ، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله ، فدعاها الله إلى معدنها الأول ، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله ، راضية من الله بالله ، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية . هـ . والنفوس ثلاثة : أمّارة ، ولوّامة ، ومطمئنة ، وزاد بعضهم : اللاّمة . والله تعالى أعلم ، صلّى الله على سيدنا محمد وآله .