Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 14-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ ربك لبالمرصاد } ، قال ابن عباس : بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء ، ولا يفوته أحد ، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة ، كما أشار إليه بقوله : { فأمّا الإنسان … } الخ ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد . هـ . وأصل المرصاد : المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد ، أي : الانتظار ، مفعال ، من : رصَده ، كالميقات من وقته ، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة ، وأنهم لا يفوتونه ، قال الطيبي : لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب ، أتبعه قوله : { إِنَّ ربك لبالمرصاد } تخلُّصاً ، أي : فعل بأولئك ما فعل ، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل ، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور والنهي عن سفسافها ، ورذائلها ، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب ، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب ، كما قال : { لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25 ] . ثم فصّل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم ، فقال : { فأمّا الإِنسانُ } ، فهو متصل بما قبله ، كأنه قيل : إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا { فأمّا الإنسان } الغافل فلا يهمه ذلك ، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها ، { إِذا ما ابتلاه ربُّه } أي : عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره { فأكْرَمَه ونَعَّمه } ، الفاء تفسيرية ، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء ، { فيقول ربي أكرمنِ } أي : فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه ، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر ، وهو خبر المتبدأ الذي هو " الإنسان " ، والفاء لما في " أمَّا " من معنى الشرط ، والظرف المتوسط على نية التأخُّر ، كأنه قيل : فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام ، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء . ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية ، فقال : وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء ثم استشهد بالآية ، وقال : والتقدير : فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول . هـ . وقال المرادي : إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما ، والثاني مقيد للأول ، كتقييده بحال واقعة موقعه ، ثم استشهد بما حاصله في الآية : فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول … الخ ، فالشرط الثاني في معنى الحال ، والحال لا تحتاج إلى جواب . هـ . مختصراً انظر الحاشية الفاسية . { وأمّا إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه } أي : ضَيّق عليه رزقه ، وجعله بمقدار بلغته ، حسبما تقتضيه ميشئته المبينة على الحِكَم البالغة { فيقول ربي أهاننِ } ، ولا يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه أيصبر أم يجزع ، مع أنه ليس من الإهانة في شيءٍ بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين ، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما ، فالواجب لمَن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة ، ولا تَهمّه العاجلة ، وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني وفضّلني بما أعطاني ، فيرى الإكرام في كثرة الحظّ من الدنيا ، وإذا امتحنه بالفقر ، فَقَدَر عليه رزقه ليصبر ، قال : ربّي أهانني ، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا لأنه لا يهمه إلاَّ العاجلة ، وهو ما يلذّه وينعِّمه فيها ، وإنما أنكر قوله : { ربي أكرمن } مع أنه أثبته بقوله : { فأكرمه ونعَّمه } ، لأنه قاله على قصد خلاف ما صحّحه الله عليه وأثبته ، وهو قصده إلى أن الله أعطاه إكراماً له لاستحقاقه ، كقوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ } [ القصص : 78 ] وإنما أعطاه الله ابتلاءً من غير استحقاق منه ، فردّ تعالى عليه زعمه بقوله : { كلاَّ } أي : ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلّته ، بل الإكرام في التوفيق للطاعة ، والإهانة في الخذلان فـ " كلا " ردع للإنسان عن مقالته ، وتكذيب له في الحالتين ، قال ابن عباس : المعنى : لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ ، بل ذلك بمحض القضاء والقدر . وقوله تعالى : { بل لا تُكرِمون اليتيمَ } انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله ، والالفتات إلى الخطاب للإيذان بمشافهته بالعتاب ، تشديداً للتقريع ، وتأكيداً للتشنيع ، والجمع باعتبار معنى الإنسان ، إذ المراد به الجنس ، أي : بل لكم أحوال أشد شرًّا مما ذكر ، وأدل على تهالككم على المال ، حيث يُكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبّرة به . { ولا تَحاضُّون على طعام المسكين } أي : يحض بعضُكم بعضاً على إطعام المساكين ، { وتأكلون التراثَ } أي : الميراث ، وأصله الوُراث ، فقلبت الواو تاء ، { أكلاً لمّا } أي : ذا لَمّ ، وهو الجمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يُورِثون النساء والصبيان ، ويأكلون أنصباءهم ، ويأكلون كل ما تركه المُورّث من حلال وحرام ، عالمين بذلك ، { وتُحبون المالَ حباً جماً } أي : كثيراً شديداً ، مع الحرص ومنع الحقوق ، { كَلاًّ } ردعٌ عن ذلك ، وإنكارٌ عليهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : إنَّ ربك لبالمرصاد ، المطلع على أسرار العباد ، العالم بمَن أقبل عليه أو أدبر عنه ، ثم يختبرهم بالجمال والجلال ، فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكْرَمه ونَعَّمَه في الظاهر ، فيقول ربي أكرمني ، ويبطر ويتكبّر ، وأمّا إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني ، ويقنط ويتسخّط ، كَلاَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما ، وليعلما أنه اختبار من الحق ، فمَن شكر النِعم وأطعم الفير والمسكين ، وأبرّ اليتيم والأيم ، كان من الأبرار ، وإن عكس القضية كان من الفُجّار ومَن صبر على الفقر ، ورضي بالقسمة ، وفرح بالفاقة ، فهو من الأولياء ، ومَن عكس القضية كان من البُعداء ، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة ، والنعمة نقمة ، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ ، وقبضها عنه أحسان ، وفي الحكم : " ربما أعطاك فمنعك ، وربما منعك فأعطاك " . ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي ، وعن محبة المال الفاني ، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة . ثم خَوَّفهم بأهوال القيامة ، فقال : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } .