Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 107-110)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : قرأ نافع وابن عامر : بغير واو مبتدأ حذف خبره ، أي : معذبون ، أو في : لا تقم فيه أبداً ، أو في قوله : لا يزال ، أو صفة لقوله : وآخرون ، على من يقول : إن " المُرْجَوْن " غير الثلاثة المخلفين ، بل في المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار . ومن قرأ بالواو فعطف على قوله : آخرون ، أو مبتدأ حُذف خبره ، أي : وممن وصفنا : الذين ، أو منصوب على الذم ، وضراراً وما بعده : علة ، وأصل هارٍ : هائر ، فأخرت الهمزة ، ثم قلبت ياء ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين . يقول الحق جل جلاله : { و } منهم { الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً } أي : لأجل المضارة بالمؤمنين والكفر الذي أسروه ، وهو تعظيم أبي عامر الكافر ، { وتفريقاً بين } جماعة { المؤمنين } الذين كانوا يُصلون في مسجد قباء . رُوي أن بَني عَمْرو بن عوف لَمَّا بَنَوا مسجد قُباء سألوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهمْ فيصلي فيه ، فأتاهُمْ فصلَّى فيه ، فَحَسدتهم إخوانُهم بَنو غُنم بن عوفٍ ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب ، إذا قدم من الشام ، فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة ، فصل لنا فيه حتى نتخذهُ مصلى ، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك ، فقال لهم : " إني عَلى جَنَاح سَفَرٍ ، وإذا قَدِمنا ، إِن شاء الله ، صلَّينا فيه " . فلما قدم أتوه ، فأخذ ثوبه ليقوم معهم ، فنزلت الآية ، فدعا مالك بن الدُّخشم ، ومَعن بن عدي ، وعامر بن السَّكن ، فقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه ففعلوا ، واتخذوا مكانه كناسة . ثم أشار إلى قصدهم الفاسد ، فقال : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } أي : واتخذوه انتظاراً ليؤمهم فيه من حارب الله ورسوله ، يعني : أبا عامر الراهب ، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلاَّ قاتلتك معهم ، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فانهزم مع هوازن ، ثم هرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات بِقنَّسرَينَ طريداً وحيداً . وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة : الراهب ، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق . وقوله : { من قبلُ } : متعلق بحارب ، أي : حارب من قبل هذا الوقت ، أو باتخذوا ، أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف لأنه قبيل غزوة تبوك . { وليَحلِفُن إن أردنا إلا الحسنى } أي : ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى ، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين . { والله يشهد إنهم لكاذبون } في حلفهم . ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال : { لا تَقُم فيه أبداً } للصلاة إسعافاً لهم ، { لمسجدٌ أُسسَ على التقوى من أول يوم } من أيام وجوده ، { أحقٌ أن تقوم فيه } أي : أولى بأن تصلى فيه ، وهو مسجد قباء ، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مُقامه بقباء ، حين هاجر من مكة ، من الاثنين إلى الجمعة ، وهذا أوفق للقصة . وقيل : مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لقول أبي سعيد : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ؟ فقال : " مسْجدُكم هذا ، مَسجِدُ المَدِينَةِ " { فيه رجال يُحبون أن يتطهروا } ، كانوا يستنجون بالماء ، ويجمعون بين الماء والحجر ، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة ، طلباً لمرضات الله تعالى ، أو من الجنابة ، فلا ينامون عليها ، { والله يُحبُ المُطَّهرِين } يرضى عنهم ، ويُدنيهم من جنابه إدْناء المحب لحبيبه . وقيل : لما نَزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه المُهاجرون ، حتى وقف على باب مسجد قُباء ، فإذا الأنصار جُلوس ، فقال : " أَمؤمِنونَ أَنتُم " فَسَكَتُوا ، فأعادَها ، فقال عمر : إنهم مؤمنون وَأَنا مَعَهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " أَتَرضَونَ بالقَضاء " فقالوا : نعم ، قال : " أَتَصبِرون على البلاء " قالوا : نعم ، قال : " أَتشْكرونَ في الرَّخاء " قالوا : نعم ، فقال عليه الصلاة والسلام : " مؤمِنُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ " فَجَلَسَ ، ثم قال : " يا مَعشَرَ الأنْصَار ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَثنى عَلَيكم ، فما الذي تَصنَعُون عند الوضوء وعِندَ الغائط " فقالوا : يا رسول الله ، نُتبع الغائط الأحجارَ الثلاثةَ ، ثم نُتبعُ الأحجار المَاء . فقال : { رِجَالٌ يُحِبُون أن يتَطَّهَروا } " . { أفمن أَسسَ بُنيانه على تقوى مِنَ الله ورضوان } بإنه قصد به وجه الله ، وابتغاء مرضاته ، فَحسُنت النية في أوله ، { خيرٌ أم من أسس بنيانه على } قصد الرياء والمنافسة ، فكأنه بنى على { شفَا } أي : طرف { جُرُفٍ } : حفرة { هَارٍ } أي : واهٍ ضعيف ، أشرف على السقوط ، أو ساقط ، { فانهار به في نار جهنم } أي : طاح في جهنم ، وهذا ترشيح للمجاوز ، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار ، الذي هو من شأن الجرف ، وقيل : إن ذلك حقيقة ، وإنه سقط في جهنم ، وإنه لم يزل يظهر الدخان في موضعه إلى قيام الساعة . والاستفهام للتقرير ، والذي أُسس على التقوى والرضوان : هو مسجد قباء ، أو المدينة ، على ما تقدم ، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار ، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه ، وقصد وجه الله ، وإظهار شرعه ، والتأسيس على سفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء ، والتفريق بين المؤمنين ، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ . قاله ابن جزي : { والله لا يهدي القوم الظالمين } إلى ما فيه صلاح ونجاه . { لا يزالُ بُنيانُهم } أي : مبنيهم ، مصدر بمعنى المفعول ، { الذي بَنوا ريبةً } أي : شكاً ونفاقاً { في قلوبهم } ، والمعنى : أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم ، فإنه حملهم على ذلك ، ثم لما هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد ، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم ، { إلا أن تقطع } بالموت ، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك ، أو لا يزال بنيانهم ريبة ، أي : شكاً في الإسلام بسبب بنيانه ، لاعتقادهم صواب فعلهم ، أو غيظاً بسبب هدمه ، { والله عليمٌ } بنياتهم ، { حكيم } فيما أمر من هدم بنيانهم . الإشارة : من أراد أن يؤسس بنيان أعماله وأحواله على التقوى والرضوان ، فليؤسسه على الإخلاص والنية الحسنة ، ومتابعة السنة المحمدية ، فإنها لا تنهدم أبداً ، ومن أراد أن يؤسسها على شفا جرف هارٍ فليؤسسها على الرياء والسمعة ، وقصد الكرامات وطلب الأعواض ، فإنها تنهدم سريعاً ولا تدوم ، فما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل . وبالله التوفيق . ثم ذكر كرامة أهل الإخلاص ، فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } .