Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 60-60)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { إِنما } تدفع { الصدقاتُ } الواجبة أي : الزكاة لهؤلاء الثمانية ، وهذا يُرَجَّحُ أن لَمْزهم كان في قسم الزكاة لا في الغنائم ، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه ، واختلف : هل يجب تعميمهم ؟ فقال مالك : ذلك إلى الإمام ، إن شاء عمم وإن شاء خصص ، وإن لم يلها الإمام فصاحب المال مخير ، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ، وأفتى به بعض الشافعية ، وقال الشافعي : يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء ، إن وجدت . أولها : الفقير : وهو من لا شيء له ، وثانيها : المسكين : وهو من له شيء لا يكفيه . فالفقير أحوج ، وهو مشتق من فقار الظهر ، كأنه أصيب فقاره ، والمسكين من السكون ، كأن العجز أسكنه . ويدل على هذا قوله تعالى : { أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِينَ } [ الكهف : 79 ] . فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة ، وأنه صلى الله عليه وسلم سأل المسكنة وقيل بالعكس ، لقوله تعالى : { أًو مِسكيناً ذَا مَتربَةٍ } [ البلد : 16 ] وقيل : هما سواء . { والعاملينَ عليها } أي : الساعين في تحصيلها وجمعها ، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق ، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها ، ويضافون منها بلا سَرف . { والمؤلفة قلوبهم } قال مالك : هم كفار ظهر ميلهم للإسلام ، فيعطوا ترغيباً في الإسلام . وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة ، فيعطوا ليتمكن الإسلام في قلبهم ، وحكمُهم باق ، وقيل : أشراف يُترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم . { وفي الرقاب } أي : في فك الرقاب ، يشترون ويعتقون ، { والغَارِمينَ } ، أي : مَنْ عليهم دَيْن ، فيعطى ليقضي دينه ، ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد ولا سرف ، وليس له ما يبيع في قضائه . { وفي سبيل الله } يعني : الجهاد ، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء ، ويشتري منها آلة الحرب ، ولا يبنى منها سور ولا مركب . { وابن السبيل } وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده ، ولم يجد مسلفاً ، إن كان مليَّاَ ببلده ، وإلا أعطي مطلقاً . فرض الله ذلك { فريضة من الله } أي : حقاً محدوداً عند الله . قال ابن جزي : ونصبه على المصدر يعني : لفعل محذوف كما تقدم فإن قيل : لِمَ ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين ؟ فالجواب : أنه خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها ، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات … } هـ . { والله عليمٌ حكيم } يضع الأشياء في مواضعها . الإشارة : إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين ، الذين افتقروا من السِّوى ، وسكنوا في حضرة شهود المولى . وفي الحكم . " ورود الفاقات أعياد المريدين ، ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة ، الفاقات بسُطُ المواهب . إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك . { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } . وقال الهروي : الفقر صفة مهجورة ، وهو ألذُّ ما يناله العارف ، لكونها تدخله على الله ، وتجلسه بين يدي الله ، وهو أعم المقامات حكماً لقطع العوائق ، والتجرد من العلائق ، واشتغال القلب بالله . وقيل : الفقير الصادق لا يملِك ولا يُملَك . وقال الشبلي : الفقير لا يستغني بشيء دون الله . وقال الشيخ ابن سبعين رضي الله عنه : الفقير هو الذي لا يحصره الكون . هـ . يعني : لخروج فكرته عن دائرة الأكوان ، وقال القشيري : الفقير الصادق عندهم : مَنْ لا سماء تُظِله ، ولا أرضَ تُقِلُّه ، ولا سهم يتناوله ، ولا معلومَ يشغِله ، فهو عبد الله بالله . هـ . وقال السهروردي في عوارفه : الفقر أساس التصوف ، وبه قوامه ، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر لأن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد ، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي ، وإن كان فقيراً زاهداً . وقال بعضهم : نهاية الفقر بداية التصوف لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني ، والخروج من كل خلق دنيء ، لكنهم اتفقوا ألاًّ دخول على الله إلا من باب الفقر ، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما أشار إليه القوم . وقال أبو إسحاق الهروي أيضاً : من أراد ان يبلغ الشرفَ كل الشرف فليخترْ سبعاً على سبع ، فإن الصالحين اختاروا حتى بَلَغُوا سنام الخير . واختاروا الفقر على الغنى ، والجوع على الشبع والدُّون على المرتفع ، والذلَّ على العز ، والتواضع على الكبر ، والحزن على الفرح ، والموت على الحياة . هـ . وقال بعضهم : إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى حذراً أن يدخله فيفسد عليه فقره ، كما يحترز الغنى من الفقر حذراً أن يفسد عليه غناه . قال بعض الصالحين : كان لي مال ، فرأيت فقيراً في الحرم جالساً منذ أيام ، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة ، فقلت : أُعنيه بهذا المال فألقيته في حجره ، وقلت : استعن بهذا على دنياك ، فنفض بها في الحصباء ، وقال لي : اشتريتُ هذه الجلسة مع ربي بما ملكت ، وأنت تفسدها عليَّ ؟ ثم انصرف وتركني ألقُطها . فوالله ما رأيت أعز منه لَمَّا بَدَّدَها ، ولا أذل مني لما كنت ألقطها . هـ . وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء اصبح حزيناً ، وإذا لم يصبح عنده شيء أصبح فرحاً مسروراً ، فقيل له : إنما الناس بعكس هذا ، فقال : إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة ، وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة . هـ . وجمهور الصوفية : يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر ، ويُفضلون الفقر في الجملة على الغني لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره ، وما كان ليختار المفضول . وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء . قال القشيري : كان ابن عطاء يُفضل الغنى على الفقر ، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة ، فلما رجع إليه عقله قال : إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد . وتكلم يحيى بن معاذ ، ففضل الغنى على الفقر ، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم ، فدعا بعض المشايخ عليه ، فقال : لا بارك الله له فيها ، فخرج عليه اللص فنهبه إياها . هـ . وحكي عن أبي يزيد البسطامي : أنه قال : أًسري بروحي ، فرأيت كأني واقف بين يدي الله ، فسمعت قائلاً يقول : يا أبا يزيد ، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا ، فقلت : يا مولاي وأي شيء ليس عندك ، ولك خزائن السماوات والأرض ؟ فسمعت : يا أبا يزيد ، ليس عندي ذل ولا فقر فمن أتاني بهما بلّغته . هـ . وقال في الإحياء : الفقر المستعاذ منه : فقر المضطر ، والمسؤول هو : الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله عز وجل . هـ . قلت : والأحسن أن المستعاذ منه هو : فقر القلوب من اليقين ، فيسكنها الجزع والهلع ، والفقر المسؤول هو : التخفيف من الشواغل والعلائق ، والله تعالى أعلم . وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها ، فقال : من أهل المعرفة من رأى أنَّ أَخذَ الزكاة المفروضة أَولى ، قالوا : لأن الله سبحانه جعل ذلك مِلكاً للفقير ، فهو أحل له من المتطوع به . ومنهم من قال : الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة ، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى ، فلم يزاحموا أرباب السهمان ، وتحرجوا من أخذ الزكاة ، ومنهم من قال : إن ذلك وسخ الأموال ، وهو لأصحاب الضرورات . وقالوا : نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً … فلم يأخذوا الزكاة المفروضة . ه . وقوله تعالى : والعاملين عليها : هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد ، و المؤلفة قلوبهم على حضرة محبوبهم ، والجادُّون في فك الرقاب من الجهل والغفلة وهم أهل التذكير ، الداعون إلى الله ، والغارمين أي : الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم ، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار ، وفي سبيل الله أي : المجاهدون أنفسهم في مرضاة الله . وابن السبيل : السائحين في طلب معرفة الله . والله تعالى أعلم . ثم ذكر نوعاً آخر من مساوئ المنافقين ، فقال : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } .