Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-10)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { لا أُقسم بهذا البلد } أَقسم تعالى بالبلد الحرام ، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ . واعترض بين القسم وجوابه بقوله : { وأنت حِلّ بهذا البلد } ، أي : وأنت حالّ ساكن به ، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به ، أو : وأنت حِل ، أي : تُستحل حرمتُكَ ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر ، ولا قطع شجر وعلى هذا قيل : " لا أٌقسم " نفي ، أي : لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية ، وهذا ضعيف ، أو : وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك ، وهذا هو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هذا البلد حرام ، حرّمه اللهُ يومَ خلق السموات والأرض ، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي ، ولا يحل لأحد بعدي ، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ " ، يعني : فتح مكة ، وفيه أَمَرَ صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خَطَل ، وهو متعلّق بأستار الكعبة . فإن قلتَ : السورة مكية ، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة ؟ قلتُ : هو وعد بالفتح وبشارة . انظر ابن جزي . وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة ، كقوله تعالى : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 ، 7 ] وقوله تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ مِثْلِهِ } [ الأحقاف : 10 ] وغير ذلك . { ووالدٍ وما وَلَد } أي : وآدم وجميع ولده ، أو نوح وولده ، أو إبراهيم وولده ، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم ، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل ، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم وولده ، أو جنس كل والد ومولود . { لقد خلقنا الإِنسانَ } أي : جنسه { في كبدٍ } في تعب ومشقة ، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها ، يُكابد مشاق التعلُّم ، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته ، ثم يكابد نزع روحه ، ثم سؤاله في قبره ثم تعب حشره ، ومقاساة شدائد حسابه ، ثم مروره على الصراط ، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده ، هذا في عموم الناس ، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق ، فأسقطوا عنهم الأحمال لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية ، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم ، لقوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، يقال : كَبِدَ الرجل كَبَداً : إذا وجعت كبده من مرض أو تعب . { أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ } أي : أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد ، أو : أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن قيل : هو أبو الأشدّين الجمحي ، رجل من قريش كان شديد القوة ، مغترًّا بقوته ، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ، ويقول : مَن أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً ، ولا تزال قدماه ، وقيل : عَمْرو بن عبد ود ، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة ، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه . { يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً } أي : كثيراً ، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض ، يريد كثرة ما أنفقه ، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي ، رياءً وفخراً . { أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ } ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً ، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه يعني : أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه . ثم ذكر نِعمه عليه ، فقال : { ألم نجعل له عينين } يُبصر بهما المرئيات ، { ولساناً } يُعَبِّرُ به عما في ضميره ، { وشفتين } يستر بهما فاه ، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها ، { وهديناه النجدين } أي : طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار ، فهو كقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ … } [ الإنسان : 3 ] الآية . وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد بل معنى الإلهام ، أو : الثديين ، وأصل النجد : المكان المرتفع ، ومنه سُميت نجد لارتفاعها عما انخفض من الحجاز . الإشارة : أقسم تعالى ببلد المعاني ، التي هي أسرار الذات ، ووالد ، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات ، لقد خلق الإنسانَ في كبد : في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله ، أعني : روحانيًّا قدسيًّا ، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع . قال الكواشي : عن بعضهم : الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه ، واقفاً بحاله ، فإنه في ظلمة وبلاء ، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته ، بفناء طبائعه عنه ، صار في راحةٍ . هـ . والحاصل : أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان ، فإنه في روح وريحان ، وجنات ورضوان . أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه ، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا . ألم نجعل له عينين ، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض ، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله ؟ فليرح نفسه من تعب التدبير ، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه ، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه ، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه ، وهديناه الطريقين الشريعة والحقيقة ، فإذا سلكهما وصلناه إلينا . ثم أمره بالمجاهدة في سلوك الطريق التي تُفضي به إلى راحته ، فقال : { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } .