Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 91, Ayat: 1-10)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { والشمسِ وضُحاها } أي : وَضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها ، { والقمرِ إِذا تلاها } تبعها في الضياء والنور وذلك في النصف الأول من الشهر ، يخلف القمرُ الشمسَ في النور ، { والنهارِ إِذا جلاَّها } أي : جلّى الشمسَ وأظهرها للرائين ، وذلك عند افتتاح النهار وانبساطه لأنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء ، وقيل : الضمير للظلمة أو الأرض ، وإن لم يجر لها ذكر ، كقوله : { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] ، { والليلِ إِذا يغشاها } أي : يستر الشمس ويُظْلِمُ الأفاق ، والواو الأولى في هذه الأشياء للقسم باتفاق ، وكذا الثانية عند البعض وعند الخليل : الثانية للعطف لأنَّ إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز ، ألا ترى : أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان المعنى على حاله ، وهما حرفا عطف وكذا الواو ، ومَن قال : إنها للقسَمَ احتجّ بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين ، لأنَّ قوله : { وَٱلْلَّيْلِ } [ الليل : 1 ] مثلاً مجرور بواو القسم ، { إِذا يغشى } منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم ، فلو جعلت الواو التي في { وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } [ الليل : 2 ] للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جرًّا ، و { إذا تجلى } معطوفاً على " يغشى " نصباً ، وكان كقولك : إنَّ في الدار زيداً ، والحُجرة عَمْراً ، وأجيب بأنّ واو القسم تنزّلت منزلة الباء والفعل ، حتى لم يجز إبراز الفعل معها ، فصار كأنها العاملة جرًّا ونصباً ، وصارت كعاملٍ واحد له معمولان ، وكلُّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحدٍ بالاتفاق ، نحو : ضرب زيدٌ عمراً وأبو بكر خالداً ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل . { والسماءِ وما بناها } أي : ومَن بناها ، وإيثار " ما " على " مَنْ " لإرادة الوصفيّة تفخيماً ، كأنه قيل : والقادر العظيم الذي بناها ، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم ، وكذا في قوله : { والأرضِ وما طحاها } أي : بسطها من كل جانب ، كـ " دحاها " . { ونفسٍ وما سوَّاها } أي : والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها ، مستعدة لكمالاتها ، والتنكير للتفخيم ، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير ، وهو الأنسب للجواب ، أي : ومَن سوّى كلَّ نفس ، { فألْهَمَها فجورَها وتقواها } أي : ألهمها طاعتها ومعصيتها ، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى ، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين ، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] أي : ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه ، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها ، فسعت إليه . { قد أفلح مَن زَكَّاها } أي : فاز بكل مطلوب ، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة ، { وقد خاب مَن دسَّاها } أغواها ، قال عكرمة : " أفلحت نفس زكّاها اللهُ ، وخابت نفس أغواها الله " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد . والتدسية : النفس والإخفاء ، أي : خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور وأصل دسّى : دسّس كتقضى وتقضض ، فأبدل من الحرف الثالث ياء ، قال في الكافية : @ وثالث الأمثال أبدلنه ياء نحو تظنا خالد تظنينا @@ وجواب القسم محذوف ، والتقدير : ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود ، وقيل : " قد أفلح " وليس بشيء ، وقيل : " كذبت ثمود " على إضمار " قد " والأول أحسن والله تعالى أعلم . الإشارة : والشمس شمس العرفان ، وابتداء ضُحاها في أول الفناء والقمر قمر الإيمان إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً ، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها ، أي : ظلمة حس الكائنات ، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن والليل ليل القطيعة ، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً ، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه ، أو يتسلّى فيُسلب أو نهار البسط إذا جلاّها ، أي : ظلمة القبض ، وليل القبض إذا يغشاها ، أي : شمس نهار البسط ، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح وما بناها رفعها ، والأرض أرض الأشباح ، وما طحاها أي : بسطها للعبودية ونفسٍ وما سوّاها ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل ، قال الورتجبي : سوّاها بتسوية الصِفة ورقمها بنور الآزلية ، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات ، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله : { فألهمها فجورها وتقواها } عرّفها أولاَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت معالجتها من المنجيات والمقصود منها : عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف ، حتى تكمل معرفةُ صانعها . هـ . قال القشيري : فألهمها فجورها وتقواها : بأن خَذَلَها ووَفَّقَها ، ويقال : فجورها : حركتها في طلب الرزق ، وتقواها : سكونها لحُكْم التقدير . ثم قال : ويُقال : أفلح مَن طهَّرها من الذنوب والعيوب ، ثم عن الأطماع في الأَعواض ، ثم العبد نفسه عن الاعتراض على الأنام ، وعن ارتكاب الحرام ، وقد خاب مَن خان نفسه وأهملها عن المراعاة ، ودسَّها بالمخالفات ، وفي نوادر الأصول ما حاصله : أنَّ دسّاها بمنزلة مَن دسّ شيئاً في كوة ، يمنع من دخول الضوء ، كذلك الهوى والشهوة سدّ وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة والوصلة . هـ . ثم ذكر بعض مَن دسَّى نفسه وما آل إليه أمره ، فقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } .