Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 92, Ayat: 12-21)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّ علينا لَلْهُدى } إنَّ علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل ، وتبيين الشرائع ، أو : إن علينا بموجب قضائنا المَبْنيِّ على الحِكَم البالغة ، حيث خلقنا الخلق للعبادة ، أن نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه ، وقد فعلنا ذلك مما لا مزيد عليه ، حيث بَيَّنَّا حال مَن سلك كلا الطريقين ، ترغيباً وترهيباً فتبيّن أنَّ الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البُغية ، لا الدلالة الموصلة إليها حتماً . قاله أبو السعود . { وإِنَّ لنا للآخرة والأُولى } أي : التصرُّف الكلي فيهما ، كيفما نشاء ، فنفعل فيهما ما نشاء ، فنُعطي الدنيا لمَن نشاء ، والآخرة لمَن نشاء ، أو نجمع له بينهما ، أو نحرمه منهما ، فمَن طلبهما مِن غيرنا فقد أخطأ ، أو : إنَّ لنا كُلَّ ما في الدنيا والآخرة ، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهُدانا . { فَأّنْذَرتكم } خوَّفتكم { ناراً تلضى } تتلهب ، { لا يَصْلاها إِلاّ الأشقى } لا يدخلها للخلود فيها إلاّ مَن سبق له الشقاء ، { الذي كذَّب وتَوَلَّى } أي : الكافر الذي كذّب الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، وتَوَلى عن الإيمان ، { وسَيُجنبها } وسيبعِّدها { الأتقى } المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي ، فلا يحوم حولها ، فضلاً عن دخولها ، وأمّا مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد هذا البُعد ، وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور ، فلا يُنافي الحصر المذكور . { الذي يُؤتى مالَه } للفقراء { يتزكَّى } أي : يطلب أن يكون عند الله زاكياً ، لا يُريد به رياءً ولا سمعةً ، من : الزكا ، وهو الزيادة ، أو : تفعّل من الزكاة ، أو : يتطهر من الذنوب والعيوب ، وهو حال من ضمير " يؤتى " . { وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى } أي : ليس لأحدٍ عنده نعمة من شأنها تجزى وتكافأ ، { إِلاَّ ابتغاءَ وجه ربه } : استثناء منقطع ، أي : لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه { الأعلى } أي : الرفيع بسلطانه ، المنيع في شأنه وبرهانه . والآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً في جماعة كان المشركون يؤذونهم ، فأعتقهم . ولذلك قالوا : المراد بالأشقى : أبو جهل وأمية بن خلف . وعن ابن عباس رضي الله عنه : عذَّب المشركون بلالاً ، وبلالٌ يقول : أَحَدٌ أَحَدٌ ، فمرّ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : " ينجيك أحد أحد " ثم أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، وقال له : " إنَّ بلالاً يُعذَّب في الله " فعرف مراده فاشتراه برطل من ذهب ، وقيل : اشتراه بعبدٍ كان عنده اسمه " نسطاس " وكان له عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ، وكان مشركاً ، فقال له الصدِّيق : أسْلِم ولك جميع مالك ، فأبى ، فدفعه لأمية بن خلف ، وأخذ بلالاً ، فأعتقه ، فقال المشركون : ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده ، فنزلت . رُوي أنه اشتراه ، وهو مدفون بالحجارة ، يُعَذَّب على الإسلام ، قال عروة : أَعتق أبو بكر سبعة ، كلهم يُعذب في الله ، بلال وعامر بن فهيرة ، والنجدية وبنتها ، وزِنِّيرة ، وبيرة ، وأم عُبيس ، وأمة بني المؤمِّل . قال : وأسْلَم وله أربعون ألفاً ، فأنفقها كلها في سبيل الله . وقال ابن الزبير : كان أبو بكر يشتري الضعفة فيعتقهم ، فقال له أبوه : لو كنت تبتاع مَن يمنع ظهرك ، فقال : مَنْعَ ظهري أريد ، فنزلت فيه : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى } [ الليل : 17 ] الآية . واسمه : عبد الله بن عثمان ، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة ، فسمّاه الرسولُ صلى الله عليه وسلم عبد الله . وقوله تعالى : { ولسوف يرضى } جواب قسم مضمر ، أي : والله لسوف نُجازيه فيرضى ، وهو وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها ، إذ به يتحقق رضاه وهو كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [ الضحى : 5 ] . الإشارة : إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق ، فإنا أنزلنا كتاباً ما فرطنا فيه من شيء ، وبعثنا رسولاً يهدي إلى الرشد ، وجعلنا له خلفاء في كل زمان ، يهدون بأمرنا إلى حضرة قدسنا ، وإنَّ لنا للآخرةَ لِمن طلبها ، والأوُلى لِمن طلبها ، وأظهرنا أسرار ذاتِنا لمَن طلبها ، فأنذرتكم ناراً تلظى ، وهي نار البُعد لا يصلاها إلاّ الأشقى الذي سبق له البُعد منا . { الذي كذَّب وتولَّى } ، قال القشيري : أي كذَّب الحق في مظاهر الأولياء والمشايخ وأرباب السلوك ، وأعْرَض عن قبول إرشادهم ونصائحهم ، وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية ، وسيُجنبها الأتقى ، أي : يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب مَن اتقى السِّوى ، الذي يؤتى ماله تقرُّباً إلى الله ليتزكّى من العيوب والأنانية ، { وما لأحدٍ عنده من نعمة تُجزى } أي : ليس إحسانه في مقابلة حرف { إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى } أي : إلاّ طلب معرفة ذاته العلية ، { ولَسَوف يَرضى } بدوام شهود الذات الأقدس . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .