Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 98, Ayat: 1-5)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { لم يكن الذين كفروا } أي : بالرسول وبما أنزل عليه { من أهل الكتاب } اليهود والنصارى ، { والمشركين } عبَدة الأصنام { منفكِّين } منفصلين عن الكفر ، وحذف لأنَّ صلة " الذين " يدل عليه ، { حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ } الحجة الواضحة ، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم . يقول : لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلمّا بُعِثَ أسلم بعض وثبت على الكفر بعض . أو : لم يكونوا منفكين ، أي : زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة ببطلان ما هم عليه ، فتقوم الحجة عليهم . أو : لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَعَثَ اللهُ محمداً فقامت عليهم الحجة ، وإلاّ لقالوا : { لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً … } [ طه : 134 ] الآية . وتلك البينة هي { رسولٌ من الله } أي : محمد صلى الله عليه وسلم وهو بدل من " البينة " { يتلو } يقرأ عليهم { صُحفاً } كتباً { مُطَهَّرةً } من الباطل والزور والكذب ، والمراد : يتلو ما يتضمنه المكتوب في الصحف ، وهو القرآن ، يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه ، ولم يكن يقرأ مكتوباً لأنه كان أُميًّا لا يكتب ولا يقرأ الصحف ، ولكنه لَمَّا كان تالياً معنى ما في الصُحف فكأنه قد تلى الصُحف . ثم بيّن ما في الصُحف ، فقال : { فيها } أي : في الصُحف { كُتب قَيِّمةٌ } مستقيمة ناطقةٌ بالحق والعدل . ولَمّا كان القرآن جامعاً لِما في الكتب المتقدمة صدق أنَّ فيه كُتباً قيمة . { وما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتاب إِلاَّ مِن بعد ما جاءتهم البينةٌ } أي : وما اختلفوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ مِن بعد ما عَلِموا أنه حق ، فمنهم مَن أنكر حسداً ، ومنهم مَن آمن . وإنّما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إولاً بينهم وبين المشركين لأنهم كانوا على علمٍ به لوجوده في كتبهم ، فإذا وُصفوا بالتفرُّق عنه كان مَن لا كتاب له أدخل في هذا . وقيل : المعنى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : منفصلين عن معرفة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حتى بعثه الله . { وما أُمروا إِلاَّ ليعبدوا اللهَ } أي : ما أُمروا في التوراة والإنجيل إلاّ لأجل أن يعبدوا الله وحده من غير شرك ولا نفاق ، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا . وقيل : اللام بمعنى " أن " أي : إلاّ بأن يعبدوا الله { مخلصين له الدينَ } أي : جاعلين دينَهم خالصاً له تعالى ، أو : جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين . قال ابن جُزي : استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء ، وهو بعيد لأنَّ الإخلاص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك ، أو ترك الرياء . انظر كلامه ، وسيأتي بعضه في الإشارة . { حنفاءَ } مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام ، { ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ } إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة ، فالأمر ظاهر ، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا ، { وذلك دِينُ القيِّمة } أي : الملة المستقيمة . والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلو رتبته وبُعد منزلته . الإشارة : لم يكن الذين جحدوا وجودَ أهل الخصوصية من العلماء والجهّال منفكين عن ذلك حتى جاءتهم الحُجة القائمة عليهم ، وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول ، يتلو كتابَ الله العزيز على ما ينبغي وما تَفَرَّقوا في التصديق إلاّ بعد ظهوره . وما أُمروا إلاّ بالإخلاص وتطهير سرائرهم ، وهو لا يتأتى إلاّ بصُحبته . وتكلم ابنُ جزي هنا على الإخلاص ، فقال : اعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع : مأمورات ومنهيات ومباحات فأمّا المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن : خلوص النية لوجه الله ، بحيث لا يشوبها أُخرى ، فإن كانت كذلك فالعمل خالص ، وإن كانت لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك ، فالعمل رياء محض مردود ، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل ، فيه نظر واحتمال . قلت : وقد تقدّم كلام الغزالي في سورة البقرة عند قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وحاصله : أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث . انظر لفظه . ثم قال ابن جزي : وأمَّا المنهيات فإنْ تَرَكها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في تركها ، وإن تركها بنية وجه الله خرج عن عهدتها وأُجر . وأمَّا المباحات ، كلأكل والشرب ، والنوم والجماع وغير ذلك ، فإن فَعَلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر ، وإن فَعَلَها بنية وجه الله فله فيها أجر ، فإنَّ كُلَّ مباح يمكن أن يصير قُربة إذا قصد به وجه الله ، مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ، ويقصد بالجِمَاع التعفُّف عن الحرام ، وشبه ذلك . هـ . ودرجات الإخلاص ثلاث : الأولى : أن يعبد الله لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير ملاحظة أحد من الخلق ، والثانية : أن يعبد الله لطلب الآخرة فقط ، والثالثة : أن يعبد الله عبودية ومحبة . ثم بَيّن حال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا يعني أهل الكتاب والمشركين فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } .