Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 12, Ayat: 24-24)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ اهل الكوفة ، ونافع { المخلصين } بفتح اللام . الباقون بكسرها . قال أبو علي حجة من كسر اللام قوله { أخلصوا دينهم } ومن فتح اللام ، فيكون بنى الفعل للمفعول به ، ويكون معناه ومعنى من كسر اللام واحد ، فاذا أَخلصوا هم دينهم فهم مخلصون ، واذا أُخلصوا فهم مخلصون . ومعنى ( الهمّ ) في اللغة على وجوه ، منها : العزم على الفعل ، كقوله { إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } أي أرادوا ذلك وعزموا عليه . ومثله قول الشاعر : @ هممت ولم افعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله @@ وقال حاتم طي : @ ولله صعلوك تساور همه ويمضي على الأيام والدهر مقدما @@ ومنها : خطور الشيء بالبال ، وان لم يعزم عليه . كقوله { اذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما } والمعنى ان الفشل خطر ببالهم ، ولو كان الهم ها هنا عزماً لما كان الله وليهما ، لأنه قال { ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال او متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله } وارادة المعصية والعزم عليها معصية بلا خلاف ، وقال قوم : العزم على الكبير كبير ، وعلى الكفر كفر ، ولا يجوز أن يكون الله وليّ من عزم على الفرار عن نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم ويقوى ذلك ما قال كعب ابن زهير : @ فكم فيهم من سيد متوسع ومن فاعل للخير إن هم أو عزم @@ ففرق بين الهم والعزم وظاهر التفرقة يقتضي اختلاف المعنى ، ومنها المقاربة يقولون : هم بكذا ، وكذا أي كاد يفعله قال ذو الرّمة : @ أقول لمسعود بجرعاء مالك وقد هم دمعي ان تسيح اوائله @@ والدمع لا يجوز عليه العزم ، وانما أراد كاد ، وقارب ، وقال ابو الاسود الدؤلي : @ وكنت متى تهمم يمينك مرة لتفعل خيراً يعتقبها شمالكا @@ وعلى هذا قوله تعالى { جداراً يريد ان ينقض } أي يكاد وقال الحارثي : @ يريد الرمح صدر ابي براءٍ ويرغب عن دماء بني عقيل @@ ومنها الشهوة وميل الطباع ، يقول القاتل فيما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه اليه هذا من همي ، وهذا أهم الاشياء الي . وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن . وقال : اما همها وكان اخبث الهم ، واما همه فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء ، واذا احتمل الهم هذه الوجوه نفينا عنه ( ع ) العزم على القبيح واجزنا باقي الوجوه ، لان كل واحد منها يليق بحال ، ويمكن ان يحمل الهم في الآية على العزم ، ويكون المعنى ، وهم بضربها ودفعها عن نفسه ، كما يقول القائل كنت هممت بفلان اي بأن اوقع به ضرباً او مكروهاً , وتكون الفائدة على هذا الوجه في قوله { لولا أن رأى برهان ربه } مع ان الدفع عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها ، إنه لما هم بدفعها اراه الله برهاناً على انه ان اقدم على ما يهم به ، اهلكه اهلها وقتلوه ، وانها تدّعي عليه المراودة لها على القبيح وتقذفه بأنه دعاها اليه وضربها لامتناعها منه ، فأخبر تعالى انه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشا اللذين هما القتل والمكروه او ظن القبيح واعتقاده فيه . فان قيل هذا يقتضي ان جواب { لولا } تقدمها في ترتيب الكلام ، ويكون التقدير : لولا ان رأى برهان ربه لهمّ بضربها ، وتقدم جواب { لولا } قبيح او يقتضي ان تكون { لولا } بغير جواب ! . قلنا : اما تقدم جواب { لولا } فجائز مستعمل وسنذكر ذلك فيما بعد ، ولا نحتاج اليه في هذا الجواب ، لان العزم على الضرب والهم به وقعا إِلا انه انصرف عنها بالبرهان الذي رآه ، ويكون التقدير ولقد همت به ، وهم بدفعها لولا ان رأى برهان ربه ، لفعل ذلك ، فالجواب المتعلق بـ { لولا } محذوف في الكلام ، كما حذف في قوله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم } معناه ، ولولا فضل الله عليكم لهلكتم ومثله { كلا لو تعلمون علم اليقين } لم تنافسوا في الدنيا وتحرصوا على حطامها ، وقال امرؤ القيس : @ فلو انها نفس تموت سوّية ولكنها نفس تساقط انفسا @@ والمعنى فلو انها نفس تموت سوية لنقصت وفنيت ، فحذف الجواب تعويلاً على ان الكلام يقتضيه ، ولا بد لمن حمل الآية على انه هم بالفاحشة ان يقدر الجواب ، لان التقدير ، ولقد همت بالزنا وهم بمثله ، و { لولا أن رأى برهان ربه } لفعله . وانما حمل همّها على الفاحشة وهمّه على غير ذلك ، لأن الدليل دل من جهة العقل والشرع على ان الانبياء ، لا يجوز عليهم فعل القبائح ، ولم يدل على انه لا يجوز عليها ذلك بل نطق القرآن بأنها همت بالقبيح ، قال الله تعالى { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } . وقوله حاكياً عنها { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإِنه لمن الصادقين } وقال { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } واجمعت الأمة من المفسرين واصحاب الاخبار على انها همت بالمعصية ، وقد بين الله تعالى ذلك في مواضع كثيرة ان يوسف لم يهم بالفاحشة . ولا عزم عليها منها قوله { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } وقوله { إنه من عبادنا المخلصين } ومن ارتكب الفاحشة لا يوصف بذلك وقوله { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } ولو كان الأمر على ما قاله الجهال من جلوسه مجلس الخائن وانتهائه الى حل السراويل ، لكان خائناً ، ولم يكن صرف عنه السوء والفحشاء . وقال ايضاً { ولقد راودته عن نفسه ، فاستعصم } وفي موضع آخر حكاية عنها { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } وقوله حكاية عن العزيز حين رأى القميص قد من دبر { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } فنسب الكيد اليها دونه ، وقوله ايضاً { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } فخصها بالخطاب وأمرها بالاستغفار دونه . وقوله { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه . وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } والاستجابة تقتضي براءة ساحته من كل سوء ، ويدل على انه لو فعل ما ذكروه ، لكان قد صبا ولم يصرف عنه كيدهن . وقوله { قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء } والعزم على المعصية من اكبر السوء . وقوله حاكياً عن الملك { ائتوني به استخلصه لنفسي ، فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } ومن فعل ما قاله الجهال لا يقال له ذلك . ووجه آخر في الآية : إذا حمل الهم على ان المراد به العزم ، وهو ان يحمل الكلام على التقديم والتأخير ، ويكون التقدير ولقد همت به ولولا ان رأى برهان ربه لهم بها ويجري ذلك مجرى قولهم : قد كنت هلكت ، لولا اني تداركتك ، وقتلت لولا اني خلصتك ، والمعنى لولا تداركي لك لهلكت ولولا تخليصي لك لقتلت ، وان لم يكن وقع هلاك ولا قتل قال الشاعر : @ فلا يدعني قومي صريحاًً لحرة لئن كنتُ مقتولاً ويسلم عامر @@ وقال آخر : @ فلا يدعني قومي صريحاً لحرَّة لئن لم أُعجل طعنة أو اعجل @@ فقدم جواب ( لئن ) في البيتين جميعاً . وقال قوم : لو جاز هذا لجاز أَن تقول : قام زيد لولا عمرو ، وقصد زيد لولا بكر ، وقد بينا ان ذلك غير مستبعد ، وان القائل قد يقول : قد كنت قمت لولا كذا ، وكذا ، وقد كنت قصدتك لولا ان صدني فلان ، وان لم يقع قيام ولا قصد . على ان في الكلام شرطاً ، وهو قوله { لولا أن رأى برهان ربه } فكيف يحمل على الاطلاق . والبرهان الذي رآه ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد : انه رأى صورة يعقوب عاضّاً على أنامله . وقال قتادة : انه نودي يا يوسف أنت مكتوب في الانبياء وتعمل عمل السفهاء . وروي في رواية أخرى عن ابن عباس : انه رأى الملك . وهذا الذي ذكروه كلّه غير صحيح ، لان ذلك يقتضي الالجاء وزوال التكليف ، ولو كان ذلك لما استحق يوسف على امتناعه من الفاحشة مدحاً ولا ثواباً ، وذلك ينافي ما وصفه الله تعالى . من انه صرف عنه السوء والفحشاء ، وانه من عبادنا المخلصين . ويحتمل ان يكون البرهان لطفاً لطف الله تعالى له في تلك الحال او قبلها ، اختار عنده الامتناع من المعاصي ، وهو الذي اقتضى كونه معصوماً ويجوز ان تكون الرؤية بمعنى العلم ، وقال قوم : البرهان هو ما دل الله تعالى يوسف على تحريم ذلك الفعل ، وعلى ان من فعله استحق العقاب ، لان ذلك صارف عن الفعل ومقوِّي لدواعي الامتناع ، وهذا ايضا جائز ، وهو قول محمد بن كعب القرطي واختيار الجبائي .