Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 74-74)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ ابن كثير وحده ها هنا عما يعملون بالياء الباقون بالتاء . الخطاب بقوله : { قلوبكم } قيل فيمن يتوجه اليه قولان : احدهما انه اريد بنو اخى المفتول حين انكروا قتله بعد ان سمعوه منه عند احياء الله تعالى له ، انه قتله فلان . هذا قول ابن عباس . والثاني قول غيره : أنه متوجه إلى بني اسرائيل كلهم . قال : وقوله : { من بعد ذلك } اي من بعد آيات الله كلها التي اظهرها على يد موسى . وعلى الوجه الاول يكون ذلك اشارة إلى الاحياء . ومعنى { قست قلوبكم } اي : غلظت ويبست وعتت . اللغة : القسوة : ذهاب اللين ، والرحمة والخشوع ، والخضوع . ومنه يقال : قسا قلبه يقسو قسوا وقسوة وقساوة . وقوله من بعد ذلك اي من بعد احياء الميت لكم ببعض من اعضاء البقرة بعد ان تدارأوا فيه واخبرهم بقاتله ، والسبب الذى من اجله قتله . وهذه آية عظيمة كان يجب على من شاهد هذا ان يخضع ويلين قلبه . ويحتمل ان يكون من بعد احياء الميت . والآيات الاخرى التي تقدمت كمسخ القردة والخنازير ورفع الجبل فوقهم وانبجاس الماء من الحجر وانفراق البحر وغير ذلك . وانما جاز ذلك وان كانوا جماعة . ولم يقل ذلكم ، لان الجماعة : في معنى الجمع والفريق . فالخطاب في لفظ الواحد ومعناه جماعة . قوله : { فهي كالحجارة } يعني قلوبهم ، فشبهها بالحجارة في الصلابة واليبس والغلظ والشدة : اي اشد صلابة ، لامتناعهم بالاقرار اللازم من حقه الواجب من طاعته بعد مشاهدة الآيات . ومعنى " أو " في الآية : يحتمل امور : احدها ذكره الزجاج : فقال هي بمعنى التخيير كقولك جالس الحسن او ابن سيرين ايهما جالست جائز ، فكانه قال : ان شبهت قلوبهم بالحجارة جاز ، وان شبهتها بما هو اصلب كان جائزاً . والثاني ان تكون " أو " بمعنى الواو . وتقديره : فهي كالحجارة واشد قسوة ، كما قال : { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } ومثله قول جرير : @ نال الخلافة او كانت له قدرا كما اتى ربه موسى على قدر @@ وقال توبة ابن الحمر : @ وقد زعمت ليلى باني فاجر لنفسي تقاها او عليها فجورها @@ اي وعليها . ومثله قوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن او آباء بعولتهن } … الآية . والثالث ان يكون المراد الابهام على المخاطبين كما قال ابو الاسود الدؤلي : @ احب محمداً حباً شديداً وعباساً وحمزة والوصيا فان يك حبهم رشداً اصبه ولست بمخطىء إن كان غيا @@ وأبو الاسود لم يكن شاكا في حبهم ولكن ابهم على من خاطبه . وقيل لابي الاسود حين قال ذلك : شككت قال كلا ثم استشهد بقوله تعالى : { قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ظلال مبين } افتراه كان شاكا حين اخبر بذلك . والرابع ان يكون اراد بل اشد قسوة ، ومثله { وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } اي بل يزيدون ، ولا تكون بل للاضراب عن الاول بل مجرد العطف . والخامس انها كالحجارة ، أو اشد قسوة عندكم . والسادس : ان يكون اراد مثل قول القائل اطعمتك حلواً وحامضاً وقد اطعمه النوعين جميعاً . وهو انه لم يشك انه اطعمه الطعمين معاً فكأنه قال : فهي كالحجارة او اشد قسوة . ومعناه ان قلوبهم لا تخرج من احد هذين المثلين . اما ان تكون مثلا للحجارة القسوة . واما ان تكون اشد منها . ويكون معناه على هذا بعضها كالحجارة قسوة وبعضها اشد قسوة من الحجارة . وكل هذه الاوجه محتملة واحسنها الابهام على المخاطبين . ولا يجوز ان يكون المعنى الشك ، لأن الله تعالى عالم لنفسه لا يخفى عليه خافية . وكذلك في امثال ذلك نحو قوله : { فكان قاب قوسين أو أدنى } وغير ذلك وانشدوا في معنى او يراد به بل قول الشاعر : @ بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى فصورتها او انت في العين املح @@ الاعراب : يريد بل انت . والرفع في قوله : { أو أشد قسوة } يحتمل امرين : احدهما ان يكون عطفاً على معنى الكاف التي في قوله : كالحجارة ، لان معناها ، فهي مثل الحجارة . والآخر : ان يكون عطفاً على تكرير هي ، فيكون التقدير فهي كالحجارة او هي اشد قسوة من الحجارة . وقرىء بنصب الدال شاذاً فيكون نصبه على ان موضعه الجر بالكاف وانما نصب على انه وزن افعل لا ينصرف . وقوله : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } . المعنى : معناه ان من الحجارة ما هو انفع من قلوبهم القاسية ، يتفجر منها انهار ، وان منها لما يهبط من خشية الله ، والتقدير ان من الحجارة حجارة يتفجر منها انهار الماء فاستغنى بذكر الانهار عن ذكر الماء . وكرر قوله منه للفظ ما . اللغة : والتفجر : التفعل من فجر الماء : وذلك اذا نزل خارجاً من منبعه وكل سائل شُخص خارجاً من موضعه ، ومكانه فقد انفجر . ماء كان او دماء او حديد او غير ذلك . قال عمر بن لحاء : @ ولما أن قربت إلى جوير ابى ذو بطنه إلا انفجار @@ يعني خروجاً وسيلانا . وقوله : { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } تشقق الحجارة انصداعها واصله يتشقق ، لكن التاء ادغمت في الشين فصارت شيئا مشددة . وقوله : { فيخرج منه الماء } . المعنى : يعني فيخرج منه الماء فيكون عينا نابعة لا انها جارية حتى يكون مخالفا للاول . وقال الحسين بن علي المغربي : الحجارة الاولى حجارة الجبال تخرج منها الانهار . والثانية حجر موسى الذي ضربه فانفجر منه عيون ، فلا يكون تكراراً . وقوله : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } . قال ابو علي والمغربي : معناه بخشية الله ، كما قال : يحفظونه من امر الله اي بامر الله . قال وهي حجارة الصواعق والبرد . والكناية في قوله منها قيل فيها قولان : احدهما : انها ترجع إلى الحجارة ، لانها اقرب مذكور . وقال قوم : انها ترجع إلى القلوب لا الى الحجارة . فيلون معنى الكلام . وان من القلوب لما يخضع من خشية الله ، ذكره ابن بحر وهو احسن من الاول . ومن قال بالاول اختلفوا فيه . فمنهم من قال : إن المراد بالحجارة الهابطة البرد النازل من السحاب . وهذا شاذ ، لم يذكره غير ابي علي الجبائي . وقال الاكثر إن المراد بذلك الحجارة الصلبة ، لانها اشد صلابة . وقالوا في هبوطها وجوهاً : احدها ان هبوط ما يهبط من خشية الله تفيء ظلاله . وثانيها انه الجبل الذي صار دكا لما تجلى له ربه . وثالثها قاله مجاهد : إن كل حجر تردى من رأس جبل فهو من خشية الله ورابعها ان الله تعالى اعطى بعض الجبال المعرفة ، فعقل طاعة الله تعالى ، فاطاعه كالذي روي في حنين الجذع . وما روي عن النبي " صلى الله عليه وسلم " انه قال : " إن حجراً كان يسلم عليّ في الجاهلية إني لا اعرفه الآن " . وهذا الوجه فيه ضعف ، لأن الجبل ان كان جماداً ، فمحال ان يكون فيه معرفة الله . وان كان عارفا بالله وبنيته بنية الحي فانه لا يكون جبلا . وأما الخبر عن النبي ( ع ) فهو خبر واحد . ولو صح ، لكان معناه ان الله تعالى احيا الحجر فسلم على النبي " صلى الله عليه وسلم " ويكون ذلك معجزاً له " ع " . واما حنين الجذع فان الله تعالى خلق فيه الحنين ، فكان بذلك خارقا للعادة ، لأنه اذا استند اليه النبي " صلى الله عليه وسلم " سكن واذا تنحى عنه ، حنّ وقال قوم : يجوز ان يكون الله تعالى بنى داخله بنية حي ، فصح منه الحنين . وقال قوم : معنى { يهبط من خشية الله } إنه يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه . كما قيل ناقة تاجرة . اذا كانت من نجابتها وفراهتها ، تدعو الناس إلى الرغبة فيها : كما قال جرير بن عطية : @ واعور من نبهان اما نهاره فاعمى ، واما ليله فبصير @@ فجعل الصفة لليل والنهار . وهو يريد صاحبه النبهاني الذي يهجوه بذلك من اجل انه كان فيهما على ما وصفه به . والذي يقوى في نفسي ان معنى الآية الابانة عن قساوة قلوب الكفار ، وان الحجارة ألين منها ، لو كانت تلين لشيء ، للانت وتفجرت منها الانهار ، وتشققت منها المياه ، وهبطت من خشية الله . وهذه القلوب لا تلين مع مشاهدتها الآيات التي شاهدتها بنو اسرائيل : وجرى ذلك مجرى ما يقوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله } ومعناه لو انزلنا هذا القرآن على جبل ، وكانت الجبال مما تخشع لشيء ما ، لرأيته خاشعاً متصدعاً وكقوله تعالى : { ولو أن قرأناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض } إلى آخرها سواء . وادخلت هذه اللامات فيها تأكيداً للخبر . ويجوز في قوله { فهي كالحجارة } اسكان الهاء وقد قرىء به ، لأن الفاء مع الهاء قد جعلت الكلمة بمنزلة تخذ فتحذف الكسرة استثقالا . المعنى : والمعنى في الآية : انه تعالى لما اخبر عن بني اسرائيل وما انعم عليهم به ، واراهم من الآيات ، وغير ذلك ، فقال مخبراً عن عصيانهم ، وطغيانهم { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة ، أو أشد قسوة } ثم اخبر تعالى انه لا امتناع عند الحجارة مما يحدث فيها من امره ، وان كانت قاسية ، بل هي متصرفة على مراده لا يعدم شيء مما قدر فيها . وبنو اسرائيل مع كثرة نعمه عليهم وكثرة ما أراهم من الآيات ، يمتنعون من طاعته ، ولا تلين قلوبهم لمعرفة حقه ، بل تقسو وتمتنع من ذلك . وقوله : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } أي عند ما يحدث فيها من الآية الهائلة : كالزلازل وغيرها ، واضاف الخشية إلى الحجارة . وان كانت جماداً على مجاز اللغة والتشبيه . والمعنى في خشوع الحجارة انه يظهر فيها ما لو ظهر في حي مختار قادر ، لكان بذلك خاشعاً . وهو ما يرى من حالها . وانها منصرفة لامتناع عندها مما يراد بها . وهو كقوله : { جداراً يريد أن ينقض } لأن ما ظهر فيه من الميلان ، لو ظهر من حي لدل على انه يريد أن ينقض ، ليس ان الجدار يريد شيئاً في الحقيقة ، ومثله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } وقوله : { الم تر أَن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس } وقوله : { والنجم والشجر يسجدان } وقال زيد الخيل : @ بجمع تظل البلق في حجراته ترى الاكم فيه سجداً للحوافر @@ فجعل ما ظهر في الاكم من آثار الحوافر ، وقلة امتناعها عليها ، مدافعتها لها كما يدافع الحجر الصلب الحديد الصلب سجوداً لها ، ولو أن الاكم كانت في صلابة الحديد حتى يمتنع من الحوافر ، ولا تؤثر فيها ، ولا تذهب يميناً ولا شمالا ، ولا تظاهر بكثرة تزداد الحوافر عليها ، ما جاز ان يقال : انها تسجد للحوافر . وقال ابن حمزة : @ وعرفت من شرفات مسجدها حجرين طال عليهما القصر ركب الخلاء فقلت اذ بكيا ما بعد مثل بكاهما صبر @@ وقال جرير : @ لما اتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع @@ فصيرها متواضعة . والعرب يفهم بعضها مراد بعض بهذه الاشياء . فمن تعلق بشيء من هذا ليطعن به ، فانما يطعن على لغة العرب بل على لغة نفسه من اهل أي لغة كان . فان هذا موجود متعارف في كل لغة ، وعند كل جيل . وقوله : { وما الله بغافل عما تعملون } من قرأ بالتاء ، قال : الخطاب متوجه إلى بني اسرائيل فكأنه قال : وما الله بغافل يا معشر المكذبين بآياته والجاحدين بنبوة محمد " صلى الله عليه وسلم " عما تعملون . ومن قرأ بالتاء فكان الخطاب لغيرهم والكناية عنهم . والغفلة عن الشيء تركه على وجه السهو والنسيان فأخبرهم الله تعالى انه غير غافل عن اعمالهم السيئة ولا ساه عنها .