Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 3-3)

Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

[ اللغة ] : بين الله ( تعالى ) في هذا الآية ما استثناه في قوله : { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم } فهذا مما تلاه علينا فقال مخاطباً للمكلفين : { حرمت عليكم الميتة } وأصله الميتة مشدد غير انه خفف ، ولو قرئ على الاصل كان جائزاً إلا انه لم يقرأ به احد ها هنا إلا أبا جعفر المدني يقال : ميت بمعنى واحد . وقال بعضهم الميت لما لم يمت والميت لما قد مات وهذا ليس بشيء لان ميت يصلح لما قد مات ، ولما سيموت . قال الله ( تعالى ) : { إنك ميت وإنهم ميتون } وقال الشاعر في الجمع بين اللغتين : @ ليس من مات فاستراح بميت انما الميت ميت الاحياء @@ فجعل الميت مخففاً من الميت وقال بعضهم : الميتة كلما له نفسٌ سائلة من دواب البر ، وطيره مما اباح الله اكلها أهليها ووحشيها فارقتها روحها بغير تذكية . وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) انه سمى الجراد والسمك ميتاً فقال : " ميتتان مباحان : الجراد ، والسمك " . وقوله : { والدم } تقديره ، وحرم عليكم الدم . وقيل : إنهم كانوا يجعلون في المباعر يشوونها وياكلونها ، فاعلم الله تعالى ان الدم المسفوح أي المصبوب حرام ، فاما المتلطخ باللحم ، فهو كاللحم ، وما كان منه كاللحم مثل الكبد فهو مباح . وأما الطحال ، فهو محرم عندنا . وقد روي كراهته عن " علي عليه السلام ، وابن مسعود واصحابهما " وعند جميع الفقهاء أنه مباح . وانما شرطنا في الدم المحرم ما كان مسفوحا ، لانه ( تعالى ) بين ذلك في آية اخرى فقال : { أو دماً مسفوحاً } . وقوله : { ولحم الخنزير } معناه وحرم عليكم لحم الخنزير اهليه وبريه ، فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج العموم . والمراد بهما الخصوص . ولحم الخنزير على ظاهره في العموم . وكذلك كل ما كان من الخنزير حرام كلحمه من الشحم والجلد ، وغير ذلك وقوله : { وما أهل لغير الله به } موضع ما رفع وتقديره وحرم عليكم ما اُهلّ لغير الله به . ومعنى اُهلّ لغير الله به ما ذبح للاصنام والأوثان أي ذكر اسم غير الله عليه ، لان الاهلال رفع الصوت بالشيء . ومنه استهلال الصبي وهو صياحه إذا سقط من بطن امه . ومنه إهلال المحرم بالحج أو العمرة : إذا لبّى به . قال ابن احمر : @ يهل بالفرقد ركباننا كما يهل الراكب المعتمر @@ فما تقرب به من الذبح لغير الله او ذكر عليه غير اسمه حرام ، وكل ما حرم اكله مما عددناه يحرم بيعه وملكه ، والتصرف فيه . والخنزير يقع على الذكر والانثى . وفي الاية دلالة على ان ذبائح من خالف الاسلام ، لا يجوز اكله ، لانهم يذكرون عليه اسم غير الله لانهم يعنون بذلك من ابد شرع موسى ، أو اتخذ عيسى ابناً ، وكذب محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك غير الله ، فيجب أن لا يجوز أكل ذبيحته . فاما من اظهر الاسلام ، ودان بالتجسيم ، والصورة وقال بالجبر والتشبيه أو خالف الحق ، فعندنا لا يجوز اكل ذبيحته . فاما الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وموارثته ، فانه يجري عليه ، لان هذه الأحكام تابعة في الشرع لاظهار الشهادتين . واما مناكحته فلا تجوز عندنا . وقال البلخي حاكياً عن قوم : إنه لا يجوز أجراء شيء من ذلك عليهم . وحكى عن آخرين أنه يجري جميع ذلك عليهم ، لانها تجري على من اظهر الشهادتين دون المؤمنين على الحقيقة ، وكذلك أجريت على المجانين ، والاطفال . فاما التسمية على الذبيحة ، فعندنا واجبة من تركها متعمداً ، لا يجوز اكل ذبيحته ، وان تركها ناسياً ، لم يكن به بأس . وكذلك إن ترك استقبال القبلة متعمداً لم يحل أكل ذبيحته ، وان تركه ناسياً ، لم يحرم … وفي ذلك خلاف بين الفقهاء ذكرناه في الخلاف . والمنخنقة قال السدي : هي التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق وتموت . وقال الضحاك : هي التي تخنق وتموت . وقال قتادة : هي التي تموت في خناقها . وقال ابن عباس : هي التي تختنق ، فتموت . وحكي عن قتادة ان أهل الجاهلية كانوا يخنقونها ، ثم يأكلونها . والاولى حمل الآية على عمومها في جميع ذلك وهي التي تختنق حتى تموت ، سواء كان في وثاقها أو بادخال رأسها في موضع لا تقدر على التخلص أو غير ذلك ، لان الله ( تعالى ) وصفها بأنها المنخنقة ، ولو كان الامر على ما حكي عن قتادة ، لقال : " والمخنوقة " . وقوله : { والموقوذة } يعني التي تضرب حتى تموت : يقال : وقذتها أقذها وقذاً وأوقذها يوقذها إيقاذاً : إذا اثخنتها ضرباً . قال الفرزدق : @ شفارة تقذ الفصيل برجلها فطارة لقوادم الابكار @@ وهو قول ابن عباس ، وقتادة والضحاك والسدي : وقوله : { والمتردية } يعني التي تقع من جبل ، أو تقع في بئر أو من مكان عالٍ ، فتموت . وهو قول ابن عباس . وقتادة والسدي ، والضحاك ومتى وقع في بئر ولا يقدر على موضع ذكاته ، جاز أن يطعن ويضرب بالسكين في غير المذبح حتى يبرد ، ثم يؤكل . وقوله : { والنطيحة } يعني التي تنطح أو تنطح ، فتموت والنطيحة بمعنى المنطوحة ، فنقل من مفعول الي فعيل ، فان قيل : كيف تثبت فيها الهاء ، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول مثل لحية دهين ، وعين كحيل وكف خضيب ، بلا هاء ، التأنيث في شيء من ذلك ؟ قيل : اختلف في ذلك فقال : بعض البصريين اثبت فيها الهاء أعني في النطيحة ، لانها جعلت كالاسم ، مثل الطويلة والظريفة فوجه . هذا تأويل النطيحة الي معنى الناطحة . ويكون المعنى حرمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها . وقال بعض الكوفيين : إنما يحذف الهاء من فعيلة بمعنى مفعولة إذا كانت صفة لاسم قد تقدمها ، مثل كف خضيب ، وعين كحيل ، فاما إذا حذف الكف والعين والاسم الذي يكون فقيل نعتاً له واجتزوا بفعيل أثبتوا فيه هاء التأنيث ، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر فيقول : راينا كحيلة وخضيبة واكيلة السبع ، فلذلك دخلت الهاء في النطيحة ، لانها صفة المؤنث . والقول بأن النطيحة بمعنى المنطوحة هو قول اكثر المفسرين : ابن عباس ، وابو ميسرة والضحاك ، والسدي وقتادة ، لانهم اجمعوا على تحريم الناطحة والمنطوحة إذا ماتاً . وقوله : { وما أكل السبع } موضع ( ما ) رفع وتقديره وحرم عليكم ما اكل السبع بمعنى ما قتله السبع . وهو قول ابن عباس ، والضحاك وقتادة ، وهو فريسة السبع . وقوله : { إلا ما ذكيتم } معناه إلا ما ادركتم ذكاته ، فذكيتموه من هذه الاشياء التي وصفها . وموضع ( ما ) نصب بالاستثناء . واختلفوا في الاستثناء إلى ماذا يرجع فقال قوم : يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره من قوله : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع } الا ما لا يقبل الذكاة من الخنزير والدم . وهو الاقوى . ذهب اليه علي ( عليه السلام ) وابن عباس قال : وهو أن تدركه تتحرك أذنه او ذنبه ، أو تطرف عينه . وهو المروى عن ابي جعفر وابي عبد الله ( ع ) وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاووس ، وعبيد بن عمير والضحاك ، وابن زيد وقال اخرون : هو استثناء من التحريم ، لا من المحرمات ، لان الميتة لا ذكاة لها ، ولا الخنزير قالوا : والمعنى حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكر إلا ما ذكيتم مما احله الله لكم بالتذكية ، فانه حلال لكم . ذهب اليه مالك وجماعة من أهل المدينة ، والجبائي وسئل مالك من الشاة يخرق جوفها السبع حتى يخرج أمعاءها فقال لا أرى ان تذكى ولا يؤكل أي شيء يذكى منها . وقال كثير من الفقهاء إنه يراعي أن يلحق فيه حياة مستقرة ، فيذكى ويجوز أن يؤكل وما يعلم أنه لا حياة فيه مستقرة ، فلا يجوز بحال . واختار الطبري الأقل . وقال : كل ما أدرك ذكاته مما ذكر من طير أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده ، فحلال اكله إذا كان مما أحله الله لعباده واختار البلخي ، والجبائي الاول ، فان قيل : فما وجه تكرير قوله : { وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة } وجميع ما عدد تحريمه في هذه الآية وقد افتتح الآية بقوله : { حرمت عليكم الميتة } والميتة تعم جميع ذلك وان اختلفت أسباب موته من خنق أو ترد أو نطح أو اهلال لغير الله به أو اكيل سبع . وانما يكون لذلك معنى على قول من يقول : إنها ، وان كانت فيها حياة إذا كانت غير مستقرة ، فلا يجوز أكلها . قيل : الفائدة في ذلك ان الذين خوطبوا بذلك لم يكونوا يعدون الميت إلا ما مات حتف انفه من دون شيء من هذه الاسباب ، فاعلمهم الله ان حكم الجميع واحد ، وان وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة . وقال السدي إن ناساً من العرب كانوا يأكلون جميع ذلك ، ولا يعدونه ميتاً . انما يعدون الميت الذي يموت من الوجع . والتذكية : هو فري الاوداج والحلقوم إذا كانت فيه حياة ، ولا يكون بحكم الميت . واصل الذكاء في اللغة تمام الشي فمن ذلك الذكاء في السن ، والفهم وهو تمام السن . قال الخليل : الذكاء أن تأتي في السن على قروحه ، وهو سن في ذات الحافر ، هي البزولة في ذات الخف ، وهي الصلوغه في ذات الظلف . وذلك تمام استكمال القوة . قال الشاعر : @ يفضله اذا اجتهدا عليها تمام السن منه والذكاء @@ وقيل جرى المذكيات غلاب اي جرى المسار التي قد أسنت ومعنى تمام السن النهاية في الشباب ، فاذا نقص عن ذك أو زاد ، فلا يقال له الذكاء . والذكاء في الفهم أن يكون فهما تاماً سريع القبول وذكيت النار إنما هو من هذا تأويله أتممت اشعالها فالمعنى على هذا ما ذكيتم أي ما ادركتم ذبحه على التمام . وقوله : { وما ذبح على النصب } فالنصب : الحجارة التي كانوا يعبدونها وهي الاوثان . واحدها نصب ، ويجوز أن يكون واحداً ، وجمعه أنصاب . ( وما ) موضعه رفع عطفاً على ما تقدم . وتقديره وحرم عليكم ما ذبح على النصب . وبه قال مجاهدو ابن جريج ، وقتادة . وقال ابن جريج : النصب ليست اصناما الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة تنصب ثلثمائة وستون حجراً . ومنهم من يقول ثلثمائة منها لخزاعه ، فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت ، وشرحوا اللحم ، وجعلوه على الحجارة . فقال المسلمون : كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه ، فانزل الله { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها … الاية } وقوله : { وإن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق } موضع ( ان ) رفع . وتقديره . وحرم عليكم الاستقسام بالازلام . وواحد الأزلام زلم وزلم قال الراجز : @ بات يراعيها غلام كالزلم @@ وهي سهام كانت للجاهلية مكتوب على بعضها أمرني ربي ، وعلى بعضها نهاني ربي ، فاذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتم به . ضربوا تلك القداح فان خرج السهم الذي عليه أمرني ربي ، مضى لحاجته وإن خرج الذي عليه نهاني ربي ، لم يمض ، وإن خرج ما ليس عليه شيء أعادوها فبين الله ( تعالى ) أن ذلك حرام العمل به . والاستقسام الاستفعال من قسمت أمري أي قلبته ودبرته قال الراعي : @ وتركت قومي يقسمون امورهم اليك أم يتلبثون قليلا @@ وقيل : معناه طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفاءلون بها في اسفارهم وابتداءات أمورهم قال الشاعر يفتخر بقوة عزيمته وانه لا يلتفت إلى ذلك . @ أولم اقسم فترثبني القسوم @@ وبه قال ابن عباس ، وقتادة وسعيد بن جبير ، ومجاهد والسدي قال مجاهد : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها . وقوله : { ذلكم فسق } معنى هذه الاشياء التي ذكرها فسق يعني خروج من طاعة الله إلى معصيتة وهو قول ابن عباس ، وأصله من فسقت الرطبة : إذا خرجت من قشرها . قال الزجاج : ولو كان بعض هذه المرفوعات نصباً بتقدير وحرم الله الدم ولحم الخنزير ، لكان جائزاً إلا انه لم يقرأ به احد والقراءة متبعة ، لا يجوز خلاف ما قرئ به . وقوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } نصب اليوم على الظرف . والعامل فيه يئس ذو والفسق اليوم . وليس يراد به يوماً بعينه ومعناه الآن يئس الذين كفروا من دينكم ، كما يقول القائل : أنا اليوم قد كبرت ، وهذا لا يصلح إلى اليوم يريد الآن . وبئس على وزن فعل ييأس على وزن يفعل - بفتح العين ، وروي بكسرها - وقيل : يئس على وزن لعب بكسر اللام ، والعين - وذكر يأيس . والمعنى ان الله قد حول الخوف الذي كان يلحقكم منكم اليهم ، ويئسوا من بطلان الاسلام ، وجاءكم ما كنتم توعدون به من قوله ، ليظهره على الدين كله . والدين اسم لجميع ما تعبد الله به خلقه وأمرهم بالقيام به . ومعنى يئس انقطع طمعهم من دينكم أن تتركوه ، وترجعوا منه إلى الشرك . وبه قال ابن عباس والسدي وعطا . وقيل : إن اليوم الذي ذكر هو يوم عرفة من حجة الوداع بعد دخول العرب كلها في الاسلام . ذهب اليه مجاهد ، وابن جريج وابن زيد . وقيل : يوم جمعة ، لما نظر النبي ( صلى الله عليه وآله ) فلم ير الا مسلماً موحداً ، أو لم ير مشركا . وقوله { فلا تخشوهم } هذا خطاب للمؤمين نهاهم الله ان يخشوا ويخافوا من الكفار أن يظهروا على دين الاسلام ، ويقهروا المسلمين ويردوهم عن دينهم ، ولكن اخشوني وخافوني إن خالفتم امري وارتكبتم معصيتي ان احل بكم عقابي وأنزل عليكم عذابي وهو قول ابن جريج ، وغيره . وقوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } في تأويله ثلاثة اقوال : احدها - قال ابن عباس ، والسدي واكثر المفسرين إن معناه أكملت لكم فرائضي وحدودي وأمري ونهيي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما انزلت ، وتبياني ما بينت لكم ، فلا زيادة في ذلك ، ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم . وكان ذلك اليوم عام حجة الوداع قالوا : ولم ينزل بعد هذا على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيء من الفرائض في تحليل شيء ، ولا تحريمة وأنه ( عليه السلام ) مضى بعد ذلك بأحدى وثمانين ليلة . وهو اختيار الجبائي والبلخي ، فان قيل : أكان دين الله ناقصاً في حال حتى أتمه ذلك اليوم ؟ قيل : لم يكن دين الله ناقصاً في حال ، ولا كان إلا كاملا ، لكن لما كان معرضاً للنسخ ، والزيادة فيه . وذلك يجري مجرى وصف العشرة بانها كاملة العدد ، ولا يلزم أن توصف بانها ناقصة ، لما كان عدد المئة اكثر منها ، واكمل . فكذلك ما قلناه . وقال الحكم وسعيد بن جبير وقتادة معناه أكملت لكم حجكم وأفردتكم بالبلد الحرام تحجون دون المشركين ، ولا يخالطكم مشرك وهو الذي اختاره الطبري قال لان الله قد انزل بعد ذلك قوله : { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } وقال الفراء هي آخر آية نزلت . وهذا الذي ذكره لو صح لكان ترجيحاً لكن فيه خلاف . وقال الزجاج : معنى اكملت لكم الدين كفيتكم خوف عدوكم وأظهرتكم عليهم ، كما تقول : الآن كمل لنا الملك . وكمل لنا ما نريد أي كفينا ما كنا نخافه . وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( ع ) أن الآية نزلت بعد أن نصب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علياً علماً للامة يوم غد يرخم منصرفه عن حجة الوداع ، فانزل الله يومئذ { اليوم أكملت لكم دينكم } . وقوله : { وأتممت عليكم نعمتي } خاطب الله ( تعالى ) جميع المؤمنين بأنه أتم نعمته عليهم باظهارهم على عدوهم المشركين ، ونفيهم إياهم عن بلادهم ، وقطعه طمعهم من رجوع المؤمنين ، وعودهم إلى ملة الكفر ، وانفراد المؤمنين بالحج والبلد الحرام . و : قال ابن عباس وقتادة والشعبي . وقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } معناه رضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي على ما شرعت لكم من حدوده ، وفرائضه ومعالمه ديناً يعني بذلك طاعة منكم لي . فان قيل : أو ما كان الله راضياً الاسلام ديناً لعباده الا يوم أنزلت هذه الاية ؟ قيل : لم يزل الله راضياً لخلقه الاسلام ديناً ، لكنه لم يزل يصف نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) واصحابه في درجات الاسلام ، ومراتبه درجة بعد درجة ، ومرتبة بعد مرتبة ، وحالا بعد حال حتى اكمل لهم شرائعه وبلغ بهم أقصى درجاته ، ومراتبه ، ثم قال : حين أنزلت هذه الآية { ورضيت لكم الإسلام ديناً } فالصفة التي لها اليوم والحال التي انتم عليها ، فالزموه ، ولا تفارقوه . قال ابن عباس وعمر وعامر الشعبي وقتادة ، كان ذلك يوم الجمعة . وقال الطاووس بن شهاب ، وشهر ابن خوشب ، واكثر المفسرين نزلت هذه الآية يوم عرفة حجة الوداع . وروى حنش عن ابن عباس ، قال : ولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت المائدة يوم الاثنين ، وانزلت { اليوم أكملت لكم دينكم يوم الاثنين } ورفع الذكر يوم الاثنين . وقال الربيع بن أنس : نزلت في المسير من حجة الوداع . وقوله : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم } معناه من دعته الضرورة في مجاعة لان المخمصة شدة ضمور البطن . لاثم أي غير مائل إلى إثم . والمخمصة مفعلة ، مثل المجنبة والمنجلة من خمص البطن وهو طيه ، واضطماره من الجوع ، وشدة السغب ها هنا دون أن يكون مخلوقا كذلك . قال النابغة الدنباني في صفة امرأة بخمص البطن : @ والبطن ذوعُكن خميصٌ لين والنحر ينفجه بثدي مقعد @@ ولم يرد بذلك وصفها بالجوع ، لكن أراد وصفها بلطافة طيّ ما علا الاوراك والافخاذ من جسدها ، لان ذلك المحمود من النساء . فاما الاضطمار من الضر فكقول أعشى ثعلبة : @ تبيتون في المشتى ملاءً بطونكم وجاراتكم غبرٌ تبئنَ خماصاً @@ يعني يبتن مضطمرات البطن من الجوع . وقال بعض نحوي البصريين : المخمصة المصدر من خمصه الجوع . وغيره يقول : هو اسم للمصدر ، وكذلك تقع المفعلة اسماً في المصادر للتأنيث ، والتذكير : والذي قلناه هو قول ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد . وقوله : { غير متجانف لإثم } نصب على الحال . والمتجانف المتمايل للاثم المنحرف اليه . ومعناه في هذا الموضع المعتمد له القاصد اليه من جنف القوم : إذا مالوا . وكل اعوج ، فهو اجنف . والمعنى فمن اضطر الى أكل الميتة ، وما عدّد الله تحريمه عند المجاعة الشديدة غير متعمد الى ذلك ، ولا مختار له ، ولا مستحل له على كل حال ، فان الله أباحه له . تناول ذلك مقدار ما يمسك رمقه ، لا زيادة عليه . وهو قول أهل العراق . وقال أهل المدينة : يجوز أن يشبع منه عند الضرورة . وما قلناه قول ابن عباس ، ومجاهد وقتادة . قال قتادة : { غير متجانف لإثم } أي غير عاص بان يكون باغياً أو محاربا أو خارجا في معصيتة . وقال ابن زيد : لا تأكل ذلك ابتغاء الاثم ولا جرأةً عليه . وقوله : { فإن الله غفورٌ رحيمٌ } في الكلام متروك دَلّ ما ذكر عليه ، لان المعنى فمن اضطر في مخمصة الى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية غير متجانف لأثم ، فاكله لدلالة الكلام عليه . ومعنى { فإن الله غفورٌ رحيمٌ } ان الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله في مخمصة متجانف ، لأثم غفور لذنوبه أي ساترعليه أكله ، ويعفو عن مؤاخذته به ، وليس يريد أن يغفر له عقاب ذلك ، لانه اباحه له ، فلا يستحق عليه العقاب وهو رحيم أي رفيق بعباده . لان رحمته ورفقه أنه أباح لهم أكل ما حرم عليهم في حال الخوف على النفس وروى المثنى قال : قلنا يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنا بارض يصيبنا فيها مخمصة ، فما يصلح لنا من الميتة ؟ قال : " إذا لم تصطبحوا أو تعتبقوا أو تختفؤا بها بقلا ، فشأنكم بها بقلا " ، وقال الحسن : يأكل منها مسكته . وذكر في تختفئوا خمس لغات : تختفئوا بالهمزة وتختفوا - بحذفها - وتختفيوا - بقلبها ياء - وتختفوا وتخفوا - بالتخفيف - والخفا أصل البردي كانوا يقشرونه ويأكلونه في المجاعة ، فمع وجود ذلك لا يجوز اكل الميتة . وقوله : { فإن الله غفور رحيم } عقيب قوله : { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم } لا يدل على ان له أن يعاقبهم على فعل المباح ، لان الوجه في ذلك أنه أراد أن يصف نفسه بمغفرة الذنوب وسترها ، والصفح عنها ليدل بذلك على أنه أحرى ألا يؤخذ بفعل المباحات التي ليست بذنوب ، كما قال : { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } فدل على أن ما يفعله من المغفرة أو العقوبة صواب وحكمة ، ليكون أعم في الدلالة على استحقاقه الاوصاف المحمودة . واجاز بعضهم أن يكون ذلك ثواباً لبعض المكلفين قدمه ، كما انه يجوز ان تكون الحدود عقاباً لهم قدمه فلا شبهة في ذلك .