Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 71-80)
Tafsir: at-Tibyān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرأ اهل الكوفة إلا عاصماً { بموقع } على التوحيد . الباقون { بمواقع } على الجمع . هذا تنبيه آخر من الله تعالى على قدرته على النشأة الثانية ، وعلى وجه الدلالة على ذلك وعلى اختصاصه بصفات لا يشركه فيها غيره ، لانه قال { أفرأيتم } معاشر العقلاء { النار التي تورون } فالنار مأخوذ من النور ، ومنه قول الحارث ابن حلزة : @ فتنورت نارها من بعيد بخزازي هيهات منك الصلاء @@ وجمع النور انوار ، وجمع النار نيران ، والنار على ضربين : نار محرقة ، ونار غير محرقة . فالتي لا تحرق النار الكامنة بما هي مغمورة به كنار الشجر ونار الحجر ونار الكيد . والتي تحرق هي النار الظاهرة فيما هي مجاورة له مما من شأنه الاشتعال ، وهي معروفة . ومعنى { تورون } تظهرون النار ، ولا يجوز الهمزة ، لأنه من اورى يورى إيراء إذا قدح ، فمعنى تورون تقدحون . وورى الزند يوري ، فهو وار إذا . أنقدحت منه النار ، ووريت بك زنادي إذا اصابك أمري كما يضيء القدح بالزناد ثم قال { أأنتم أنشأتم شجرتها } يعني الشجرة التي تنقدح منها النار أي انتم انبتموها وابتدأتموها { أم نحن المنشئون } لها ، فلا يمكن أحد ان يدعي ان الذي أنشأها غير الله تعالى والعرب تقدح بالزند والزندة ، وهو خشب معروف يحك بعضه ببعض فيخرج منه النار - ذكره الزجاج وغيره - وفى المثل ( كل شجرة فيها نار واستمجد المرخ والعفار ) فان قيل : لم لا يكون نار الشجر بطبع الشجر لا من قادر عليه . قيل : الطبع غير معقول ، فلا يجوز أن يسند اليه الأفعال ، ولو جاز ذلك للزم فى جميع افعال الله ، وذلك باطل ولو كان معقولا لكان ذلك الطبع لا بد ان يكون فى الشجر والله تعالى الذي أنشأ الشجرة وما فيها ، فقد رجع الى قادر عليه وإن كان بواسطة ، ولو جاز ان تكون النار من غير قادر عليها لجاز أن يكون من عاجز ، لأنه إذا امتنع الفعل ممن ليس بقادر عليه منا ، لأنه فعل ، وكل فعل ممتنع ممن ليس بقادر عليه . وقوله { نحن جعلناها } يعني تلك النار { تذكرة ومتاعاً للمقوين } أي جعلنا النار تذكرة للنار الكبرى ، وهي نار جهنم ، فيكون ذلك زجراً عن المعاصي التي يستحق بها النار - فى قول مجاهد وقتادة - ويجوز ان يكون المراد تذكرة يتذكر بها ويتفكر فيها ويعتبر بها ، فيعلم انه تعالى قادر على النشأة الثانية ، كما قدر على إخراج النار من الشجر الرطب . وقوله { ومتاعاً للمقوين } يعني ينتفع بها المسافرون الذين نزلوا الأرض القي وهي القفر ، قال الراجز : @ قيّ يناصيها بلاد قيّ @@ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : للمقوين المسافرين ، وقيل : هو من أقوت الدار إذا خلت من أهلها قال الشاعر : @ اقوى واقفر من نعم وغيرها هوج الرياح بها فى الترب موار @@ وقد يكون المقوي الذي قويت خيله ونعمه فى هذا الموضع . ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله والمراد به جميع المكلفين بأن { سبح بحمد ربك العظيم } أي نزه الله تعالى عما لا يليق به وأدعه باسمه العظيم . وقوله { فلا أقسم بمواقع النجوم } قال سعيد به جبير : ( لا ) صلة والتقدير أقسم . وقال الفراء : هي نفي بمعنى ليس الأمر كما تقولون . ثم استؤنف { أقسم } وقيل ( لا ) تزاد قبل القسم ، كقولك لا والله لا افعل ، ولا والله ما كلمت زيداً وقال امرؤ القيس : @ لا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم اني أفرّ @@ بمعنى وابيك و ( لا ) زائدة و { مواقع النجوم } قال ابن عباس ومجاهد أي القرآن ، لانه أنزل نجوماً . وقال مجاهد - فى رواية أخرى - وقتادة : يعني مساقط نجوم السماء ومطالعها . وقال الحسن : معناه إنكدارها وهو إنتشارها يوم القيامة ، ومن قرأ { بموقع } فلأنه يقع على الكثير والقليل . ومن قرأ على الجمع ، فلاختلاف أجناسه . وقوله { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } اخبار من الله تعالى بأن هذا القسم الذي ذكره بمواقع النجوم لقسم عظيم لو تعلمون عظمه لانتفعتم بعلمه . والقسم جملة من الكلام يؤكد بها الخبر بما يجعله فى قسم الصواب دون الخطأ على طريقة بالله إنه لكذا . وقال ابو علي الجبائي : القسم فى كل ما ذكر فى القرآن من المخلوقات إنما هو قسم بربه ، وهذا ترك الظاهر من غير دليل ، لأنه قد يجوز ذلك على جهة التنبيه على ما فى الاشياء من العبرة والمنفعة . وقد روي أنه لا ينبغي لأحد أن يقسم إلا بالله ، ولله ان يقسم بما يشاء من خلقه ، فعلى هذا كل من اقسم بغير الله او بشي من صفاته من جميع المخلوقات او الطلاق او العتاق لا يكون ذلك يميناً منعقدة ، بل يكون كلاماً لغواً . والعظيم هو الذي يقصر عن مقداره غيره فيما يكون منه ، وهو على ضربين : احدهما - عظيم الشخص ، والآخر - عظيم الشأن . وقوله { إنه لقرآن كريم } معناه إن الذي تلوناه عليكم لقرآن تفرقون به بين الحق والباطل { كريم } فالكريم هو الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير ، فلما كان القرآن من شأنه أن يعطي الخير الكثير بالادلة التي تؤدي إلى الحق فى الدين كان كريماً على حقيقة معنى الكريم ، لا على التشبيه بطريق المجاز ، والكريم فى صفات الله من الصفات النفسية التي يجوز فيها لم يزل كريماً ، لأن حقيقته تقتضي ذلك من جهة ان الكريم الذي من شأنه ان يعطي الخير الكثير ، فلما كان القادر على التكرم هو الذي لا يمنعه مانع من شأنه ان يعطي الخير الكثير صح أن يقال إنه لم يزل كريماً . وقوله { في كتاب مكنون } قيل : هو اللوح المحفوظ أثبت الله تعالى فيه القرآن والمكنون المصون . وقوله { لا يمسه إلا المطهرون } قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لا يمس الكتاب الذي فى السماء إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة - فى قول ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وجابر وابن زيد وأبي نهيد ومجاهد . وقيل { لا يمسه إلا المطهرون } فى حكم الله . وقد استدل بهذه الآية على أنه لا يجوز للجنب والحائض والمحدث أن يمسوا القرآن ، وهو المكتوب فى الكتاب الذي فيه القرآن أو اللوح . وقال قوم : إنه لا يجوز لهم ان يمسوا الكتاب الذي فيه ، ولا أطراف او راقه ، وحملوا الضمير على انه راجع إلى الكتاب وهو كل كتاب فيه القرآن . وعندنا إن الضمير راجع إلى القرآن . وإن قلنا إن الكتاب هو اللوح المحفوظ ، فلذلك وصفه بأنه مصون ، ويبين ما قلناه قوله { تنزيل من رب العالمين } يعني هذا القرآن تنزيل من رب العالمين أنزله الله الذي خلق الخلائق ودبرهم على ما أراد .