Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 10, Ayat: 12-12)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفيه مسائل : المسألة الأولى : في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك ولقضى عليه ، فبين في هذه الآية ما يدل على غاية ضعفه ونهاية عجزه ، ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره من أنه لو أنزل عليه العذاب لمات . الثاني : أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستعجلون في نزول العذاب ، ثم بين في هذه الآية أنهم كاذبون في ذلك الطلب والاستعجال ، لأنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه ويؤذيه ، فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه وفي دفعه عنه وذلك يدل على أنه ليس صادقاً في هذا الطلب . المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية ، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء ، قليل الشكر عند وجدان النعماء والآلاء ، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء مضطجعاً أو قائماً أو قاعداً مجتهداً في ذلك الدعاء طالباً من الله تعالى إزالة تلك المحنة ، وتبديلها بالنعمة والمنحة ، فإذا كشف تعالى عنه ذلك بالعافية أعرض عن الشكر ، ولم يتذكر ذلك الضر ولم يعرف قدر الإنعام ، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره ، وذلك يدل على ضعف طبيعة الإنسان وشدة استيلاء الغفلة والشهوة عليه ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على أن هذه الطريقة مذمومة ، بل الواجب على الإنسان العاقل أن يكون صابراً عند نزول البلاء شاكراً عند الفوز بالنعماء ، ومن شأنه أن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية . حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء " " واعلم أن المؤمن إذا ابتلي ببلية ومحنة ، وجب عليه رعاية أمور : فأولها : أن يكون راضياً بقضاء الله تعالى غير معترض بالقلب واللسان عليه . وإنما وجب عليه ذلك لأنه تعالى مالك على الإطلاق وملك بالاستحقاق . فله أن يفعل في ملكه وملكه ما شاء كما يشاء ، ولأنه تعالى حكيم على الإطلاق وهو منزه عن فعل الباطل والعبث ، فكل ما فعله فهو حكمة وصواب ، وإذا كان كذلك فحينئذ يعلم أنه تعالى إن أبقى عليه تلك المحنة فهو عدل ، وإن أزالها عنه فهو فضل ، وحينئذ يجب عليه الصبر والسكوت وترك القلق والاضطراب . وثانيها : أنه في ذلك الوقت إن اشتغل بذكر الله تعالى والثناء عليه بدلاً عن الدعاء كان أفضل ، لقوله عليه السلام حكاية عن رب العزة " " من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " " ولأن الاشتغال بالذكر اشتغال بالحق ، والاشتغال بالدعاء اشتغال بطلب حظ النفس ، ولا شك أن الأول أفضل ، ثم إن اشتغل بالدعاء وجب أن يشترط فيه أن يكون إزالته صلاحاً في الدين ، وبالجملة فإنه يجب أن يكون الدين راجحاً عنده على الدنيا . وثالثها : أنه سبحانه إذا أزال عنه تلك البلية فإنه يجب عليه أن يبالغ في الشكر وأن لا يخلو عن ذلك الشكر في السراء والضراء ، وأحوال الشدة والرخاء ، فهذا هو الطريق الصحيح عند نزول البلاء . وههنا مقام آخر أعلى وأفضل مما ذكرناه ، وهو أن أهل التحقيق قالوا : إن من كان في وقت وجدان النعمة مشغولاً بالنعمة لا بالمنعم كان عند البلية مشغولاً بالبلاء لا بالمبلي ، ومثل هذا الشخص يكون أبداً في البلاء ، أما في وقت البلاء فلا شك أنه يكون في البلاء ، وأما في وقت حصول النعماء فإن خوفه من زوالها يكون أشد أنواع البلاء ، فإن النعمة كلما كانت أكمل وألذ وأقوى وأفضل ، كان خوف زوالها أشد إيذاء وأقوى إيحاشاً ، فثبت أن من كان مشغولاً بالنعمة كان أبداً في لجة البلية . أما من كان في وقت النعمة مشغولاً بالمنعم ، لزم أن يكون في وقت البلاء مشغولاً بالمبلي . وإذا كان المنعم والمبلي واحداً ، كان نظره أبداً على مطلوب واحد ، وكان مطلوبه منزهاً عن التغير مقدساً عن التبدل ومن كان كذلك كان في وقت البلاء وفي وقت النعماء ، غرقاً في بحر السعادات ، واصلاً إلى أقصى الكمالات ، وهذا النوع من البيان بحر لا ساحل له ، ومن أراد أن يصل إليه فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر . المسألة الثالثة : اختلفوا في { ٱلإِنسَـٰنَ } في قوله : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ ٱلضُّرُّ } فقال بعضهم : إنه الكافر ، ومنهم من بالغ وقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان ، فالمراد هو الكافر ، وهذا باطل ، لأن قوله : { ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } [ الانشقاق : 6 ، 7 ] لا شبهة في أن المؤمن داخل فيه ، وكذلك قوله : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَـٰنِ حِينٌ مّنَ ٱلدَّهْرِ } [ الدهر : 1 ] وقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] وقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } [ ق : 16 ] فالذي قالوه بعيد ، بل الحق أن نقول : اللفظ المفرد المحلى بالألف واللام حكمه أنه إذا حصل هناك معهود سابق انصرف إليه ، وإن لم يحصل هناك معهود سابق وجب حمله على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتعطيل . ولفظ { ٱلإِنسَـٰنَ } ههنا لائق بالكافر ، لأن العمل المذكور لا يليق بالمسلم ألبتة . المسألة الرابعة : في قوله : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } وجهان : الوجه الأول : أن المراد منه ذكر أحوال الدعاء فقوله : { لِجَنبِهِ } في موضع الحال بدليل عطف الحالين عليه ، والتقدير : دعانا مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً . فإن قالوا : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟ قلنا : معناه : إن المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء إلى أن يزول عنه الضر ، سواء كان مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً . والوجه الثاني : أن تكون هذه الأحوال الثلاثة تعديداً لأحوال الضر ، والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً دعانا وهو قول الزجاج . والأول : أصح ، لأن ذكر الدعاء أقرب إلى هذه الأحوال من ذكر الضر ، ولأن القول بأن هذه الأحوال أحوال للدعاء يقتضي مبالغة الإنسان في الدعاء ، ثم إذا ترك الدعاء بالكلية وأعرض عنه كان ذلك أعجب . المسألة الخامسة : في قوله : { مَرَّ } وجوه : الأول : المراد منه أنه مضى على طريقته الأولى / قبل مس الضر ونسي حال الجهد . الثاني : مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه كأنه لا عهد له به . المسألة السادسة : قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرّ مَّسَّهُ } تقديره : كأنه لم يدعنا ، ثم أسقط الضمير عنه على سبيل التخفيف ونظيره قوله تعالى : { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } [ يونس : 45 ] قال الحسن : نسي ما دعا الله فيه ، وما صنع الله به في إزالة ذلك البلاء عنه : المسألة السابعة : قال صاحب « النظم » : قوله : { وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَـٰنَ } { إِذَا } موضوعة للمستقبل . ثم قال : { فَلَمَّا كَشَفْنَا } وهذا للماضي ، فهذا النظم يدل على أن معنى الآية أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل . فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل ، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي ، وأقول البرهان العقلي مساعد على هذا المعنى وذلك لأن الإنسان جبل على الضعف والعجز وقلة الصبر ، وجبل أيضاً على الغرور والبطر والنسيان والتمرد والعتو ، فإذا نزل به البلاء حمله ضعفه وعجزه على كثرة الدعاء والتضرع ، وإظهار الخضوع والانقياد ، وإذا زال البلاء ووقع في الراحة استولى عليه النسيان فنسي إحسان الله تعالى إليه ، ووقع في البغي والطغيان والجحود والكفران . فهذه الأحوال من نتائج طبيعته ولوازم خلقته ، وبالجملة فهؤلاء المساكين معذورون ولا عذر لهم . المسألة الثامنة : في قوله تعالى : { كَذٰلِكَ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أبحاث : البحث الأول : أن هذا المزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان ، فرع على مسألة الجبر والقدر وهو معلوم . البحث الثاني : في بيان السبب الذي لأجله سمى الله سبحانه الكافر مسرفاً . وفيه وجوه : الوجه الأول : قال أبو بكر الأصم : الكافر مسرف في نفسه وفي ماله ومضيع لهما ، أما في النفس فلأنه جعلها عبداً للوثن ، وأما في المال فلأنهم كانوا يضيعون أموالهم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . الوجه الثاني : قال القاضي : إن من كانت عادته أن يكون عند نزول البلاء كثير التضرع والدعاء ، وعند زوال البلاء ونزول الآلاء معرضاً عن ذكر الله متغافلاً عنه غير مشتغل بشكره ، كان مسرفاً في أمر دينه متجاوزاً للحد في الغفلة عنه ، ولا شبهة في أن المرء كما يكون مسرفاً في الإنفاق فكذلك يكون مسرفاً فيما يتركه من واجب أو يقدم عليه من قبيح ، إذا تجاوز الحد فيه . الوجه الثالث : وهو الذي خطر بالبال في هذا الوقت ، أن المسرف هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ، ومعلوم أن لذات الدنيا وطيباتها خسيسة جداً في مقابلة سعادات الدار الآخرة . والله تعالى أعطاه الحواس والعقل والفهم والقدرة لاكتساب تلك السعادات العظيمة ، فمن بذل هذه الآلات الشريفة لأجل أن يفوز بهذه السعادات الجسمانية الخسيسة ، كان قد أنفق أشياء عظيمة كثيرة ، لأجل أن يفوز بأشياء حقيرة خسيسة ، فوجب أن يكون من المسرفين . البحث الثالث : الكاف في قوله تعالى : { كَذٰلِكَ } للتشبيه . والمعنى : كما زين لهذا الكافر هذا العمل القبيح المنكر زُيِّن للمسرفين ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر ومتابعة الشهوات .