Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 25-25)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

المسألة الأولى : في كيفية النظم . اعلم أنه تعالى لما نفر الغافلين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق ، رغبهم في الآخرة بهذه الآية . ووجه الترغيب في الآخرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " مثلي ومثلكم شبه سيد بنى داراً ووضع مائدة وأرسل داعياً ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المائدة ورضي عنه السيد . ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار دار الإسلام ، والمائدة الجنة ، والداعي محمد عليه السلام " . " وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنيبها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين . أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعوا إلى دار السلام " " المسألة الثانية : لا شبهة أن المراد من دار السلام الجنة ، إلا أنهم اختلفوا في السبب الذي لأجله حصل هذا الاسم على وجوه : الأول : أن السلام هو الله تعالى ، والجنة داره . ويجب علينا ههنا بيان فائدة تسمية الله تعالى بالسلام ، وفيه وجوه : أحدها : أنه لما كان واجب الوجود لذاته فقد سلم من الفناء والتغير ، وسلم من احتياجه في ذاته وصفاته إلى الافتقار إلى الغير ، وهذه الصفة ليست إلا له سبحانه كما قال : { وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء } [ محمد : 38 ] وقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء إِلَى ٱللَّهِ } [ فاطر : 15 ] وثانيها : أنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أن الخلق سلموا من ظلمه ، قال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ولأن كل ما سواه فهو ملكه وملكه ، وتصرف الفاعل في ملك نفسه لا يكون ظلماً . ولأن الظلم إنما يصدر إما عن العاجز أو الجاهل أو المحتاج ، ولما كان الكل محالاً على الله تعالى ، كان الظلم محالاً في حقه . وثالثها : قال المبرد : إنه تعالى يوصف بالسلام بمعنى أنه ذو السلام ، أي الذي لا يقدر على السلام إلا هو ، والسلام عبارة عن تخليص العاجزين عن المكاره والآفات . فالحق تعالى هو الساتر لعيوب المعيوبين ، وهو المجيب لدعوة المضطرين ، وهو المنتصف للمظلومين من الظالمين . قال المبرد : وعلى هذا التقدير : السلام مصدر سلم . القول الثاني : السلام جمع سلامة ، ومعنى دار السلام : الدار التي من دخلها سلم من الآفات . فالسلام ههنا بمعنى السلامة ، كالرضاع بمعنى الرضاعة . فإن الإنسان هناك سلم من كل الآفات ، كالموت والمرض والألم والمصائب ونزعات الشيطان والكفر والبدعة والكد والتعب . والقول الثالث : أنه سميت الجنة بدار السلام لأنه تعالى يسلم على أهلها قال تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] والملائكة يسلمون عليهم أيضاً ، قال تعالى : { وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } [ الرعد : 23 ، 24 ] وهم أيضاً يحيي بعضهم بعضاً بالسلام قال تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَـٰمٌ } [ يونس : 10 ] وأيضاً فسلامهم يصل إلى السعداء من أهل الدنيا ، قال تعالى : { وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ فَسَلَـٰمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلْيَمِينِ } [ الواقعة : 90 ، 91 ] . المسألة الثالثة : اعلم أن كمال جود الله تعالى وكمال قدرته وكمال رحمته بعباده معلوم ، فدعوته عبيده إلى دار السلام ، تدل على أن دار السلام قد حصل فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، لأن العظيم إذا استعظم شيئاً ورغب فيه وبالغ في ذلك الترغيب ، دل ذلك على كمال حال ذلك الشيء ، لا سيما وقد ملأ الله هذا الكتاب المقدس من وصف الجنة مثل قوله : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةٍ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 89 ] ونحن نذكر ههنا كلاماً كلياً في تقرير هذا المطلوب ، فنقول : الإنسان إنما يسعى في يومه لغده . ولكل إنسان غدان ، غد في الدنيا وغد في الآخرة . فنقول : غد الآخرة خير من غد الدنيا من وجوه أربعة : أولها : أن الإنسان قد لا يدرك غد الدنيا وبالضرورة يدرك غد الآخرة . وثانيها : أن بتقدير أن يدرك غد الدنيا فلعله لا يمكنه أن ينتفع بما جمعه ، إما لأنه يضيع منه ذلك المال أو لأنه يحصل في بدنه مرض يمنعه من الانتفاع به . أما غد الآخرة فكلما اكتسبه الإنسان لأجل هذا اليوم ، فإنه لا بد وأن ينتفع به . وثالثها : أن بتقدير أن يجد غد الدنيا ويقدر على أن ينتفع بماله ، إلا أن تلك المنافع مخلوطة بالمضار والمتاعب ، لأن سعادات الدنيا غير خالصة عن الآفات ، بل هي ممزوجة بالبليات ، والاستقراء يدل عليه . ولذلك قال عليه السلام : " " من طلب مالم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق " " فقيل يا رسول الله وما هو ؟ قال : " " سرور يوم بتمامه " " وأما منافع عز الآخرة فهي خالصة عن الغموم والهموم والأحزان سالمة عن كل المنفرات . ورابعها : أن بتقدير أن يصل الإنسان إلى عز الدنيا وينتفع بسببه ، وكان ذلك الانتفاع خالياً عن خلط الآفات ، إلا أنه لا بد وأن يكون منقطعاً . ومنافع الآخرة دائمة مبرأة عن الانقطاع ، فثبت أن سعادات الدنيا مشوبة بهذه العيوب الأربعة ، وأن سعادات الآخرة سالمة عنها . فلهذا السبب كانت الجنة دار السلام . المسألة الرابعة : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر والإيمان بقضاء الله تعالى قالوا : إنه تعالى بين في هذه الآية أنه دعا جميع الخلق إلى دار السلام ، ثم بين أنه ما هدى إلا بعضهم فهذه الهداية الخاصة يجب أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامة ، ولا شك أيضاً أن الأقدار والتمكين وإرسال الرسل وإنزال الكتب أمور عامة ، فوجب أن تكون هذه الهداية الخاصة مغايرة لكل هذه الأشياء ، وما ذاك إلا ما ذكرناه من أنه تعالى خصه بالعلم والمعرفة دون غيره . واعلم أن هذه الآية مشكلة على المعتزلة وما قدروا على إيراد الأسئلة الكثيرة ، وحاصل ما ذكره القاضي في وجهين : الأول : أن يكون المراد ويهدي الله من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ، بمعنى أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها . والثاني : أن المراد من هذه الآية الألطاف . وأجاب أصحابنا عن هذين الوجهين بحرف واحد ، وهو أن عندهم أنه يجب على الله فعل هذه الهداية ، وما كان واجباً لا يكون معلقاً بالمشيئة ، وهذا معلق بالمشيئة ، فامتنع حمله على ما ذكروه .