Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 31-33)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما بين فضائح عبدة الأوثان أتبعها بذكر الدلائل الدالة على فساد هذا المذهب . فالحجة الأولى : ما ذكره في هذه الآية وهو أحوال الرزق وأحوال الحواس وأحوال الموت والحياة . أما الرزق فإنه إنما يحصل من السماء والأرض ، أما من السماء فبنزول الأمطار الموافقة وأما من الأرض ، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً ، أما النبات فلا ينبت إلا من الأرض وأما الحيوان فهو محتاج أيضاً إلى الغذاء . ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوان حيواناً آخر وإلا لزم الذهاب إلى ما لا نهاية له وذلك محال ، فثبت أن أغذية الحيوانات يجب انتهاؤها إلى النبات وثبت أن تولد النبات من الأرض ، فلزم القطع بأن الأرزاق لا تحصل إلا من السماء والأرض ، ومعلوم أن مدبر السموات والأرضين ليس إلا الله سبحانه وتعالى ، فثبت أن الرزق ليس إلا من الله تعالى ، وأما أحوال الحواس فكذلك ، لأن أشرفها السمع والبصر وكان علي رضي الله عنه يقول : سبحان من بصر بشحم ، وأسمع بعظم ، وأنطق بلحم ، وأما أحوال الموت والحياة فهو قوله : { وَمَن يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ } وفيه وجهان : الأول : أنه يخرج الإنسان والطائر من النطفة والبيضة { وَيُخْرِجُ ٱلْمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىّ } أي يخرج النطفة والبيضة من الإنسان والطائر . والثاني : أن المراد منه أنه يخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والأكثرون على القول الأول ، وهو إلى الحقيقة أقرب ، ثم إنه تعالى لما ذكر هذا التفصيل ذكر بعده كلاماً كلياً ، وهو قوله : { وَمَن يُدَبّرُ ٱلاْمْرَ } وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي وفي عالمي الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها ، وذكر كلها كالمتعذر ، فلما ذكر بعض تلك التفاصيل لا جرم عقبها بالكلام الكلي ليدل على الباقي ثم بين تعالى أن الرسول عليه السلام ، إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون إنه الله سبحانه وتعالى ، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به ، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام إنها تقربنا إلى الله زلفى وإنهم شفعاؤنا عند الله وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ، فعند ذلك قال لرسوله عليه السلام : { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } يعني أفلا تتقون أن تجعلوا هذه الأوثان شركاء لله في المعبودية ، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة إنما تحصل من رحمة الله وإحسانه ، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة . ثم قال تعالى : { فَذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمُ } ومعناه أن من هذه قدرته ورحمته هو { رَبُّكُمُ ٱلْحَقُّ } الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه ، وإذا ثبت أن هذا هو الحق ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً ، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين ، فإذا كان أحدهما حقاً وجب أن يكون ما سواه باطلاً . ثم قال : { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر ، واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال : هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان ، لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول : { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت ، واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب . أما قوله : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته ، وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبراً جزماً قطعاً أنهم لا يؤمنون ، فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقاً أو لا يبقى ، والأول باطل ، لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يوجد الإيمان منه والثاني أيضاً باطل ، لأن انقلاب خبر الله تعالى كذباً محال فثبت أن صدور الإيمان منهم محال . والمحال لا يكون مراداً ، فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر وأنه أراد الكفر منه ، ثم نقول : إن كان قوله : { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } يدل على صحة مذهب القدرية ، فهذه الآية الموضوعة بجنبه تدل على فساده ، وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده . المسألة الثانية : قرأ نافع وابن عامر { كَلِمَـٰتُ رَبَّكَ } على الجمع وبعده { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَـٰتُ رَبَّكَ } [ يونس : 96 ] وفي حم المؤمن { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَـٰتُ } [ غافر : 6 ] كله بالألف على الجمع والباقون { كَلِمَتُ رَبّكَ } في جميع ذلك على لفظ الوحدان . المسألة الثالثة : الكاف في قوله : { كَذٰلِكَ } للتشبيه ، وفيه قولان : الأول : أنه كما ثبت وحق أنه ليس بعد الحق إلا الضلال كذلك حقت كلمة ربك بأنهم لا يؤمنون . الثاني : كما حق صدور العصيان منهم ، كذلك حقت كلمة العذاب عليهم . المسألة الرابعة : { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من { كلمت } أي حق عليهم انتفاء الإيمان . المسألة الخامسة : المراد من كلمة الله إما إخباره عن ذلك وخبره صدق لا يقبل التغير والزوال ، أو علمه بذلك ، وعلمه لا يقبل التغير والجهل . وقال بعض المحققين : علم الله تعلق بأنه لا يؤمن وخبره تعالى تعلق بأنه لا يؤمن ، وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه ، بل بخلق الكفر فيه وإرادته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه ، بل بخلق الكفر فيه ، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ ، وأشهد عليه ملائكته ، وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه ، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء ، فينقلب علمه جهلاً ، وخبره الصدق كذباً ، وقدرته عجزاً ، وإرادته كرهاً ، وإشهاده باطلاً ، وإخبار الملائكة والأنبياء كذباً ، وكل ذلك محال .