Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 35-36)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو الحجة الثالثة ، واعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً ، ثم بالهداية ثانياً ، عادة مطردة في القرآن ، فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال : { ٱلَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] وعن موسى عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال : { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلاَعْلَىٰ ٱلَّذِى خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَٱلَّذِى قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 1 3 ] وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وله روح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى ، وهو قوله : { أمَّنْ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [ النمل : 64 ] أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية . واعلم أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح ، كما قال تعالى : { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلاْبْصَـٰرَ وَٱلافْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ النحل : 78 ] وهذا كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد ، وإنما أعطى الحواس لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم ، وأيضاً فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة ، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية ، فإنها كمالات باقية أبد الآباد مصونة عن الكون والفساد ، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية ، والمقصود الأشرف الأعلى - حصول الهداية . إذا ثبت هذا فنقول : العقول مضطربة والحق صعب ، والأفكار مختلطة ، ولم يسلم من الغلط إلا الأقلون ، فوجب أن الهداية وإدراك الحق لا يكون إلا بإعانة الله سبحانه وتعالى وهدايته وإرشاده ، ولصعوبة هذا الأمر قال الكليم عليه السلام بعد استماع الكلام القديم { رَبّ ٱشْرَحْ لِى صَدْرِى } [ طه : 25 ] وكل الخلق يطلبون الهداية ويحترزون عن الضلالة ، مع أن الأكثرين وقعوا في الضلالة ، وكل ذلك يدل على أن حصول الهداية والعلم والمعرفة ليس إلا من الله تعالى . إذا عرفت هذا فنقول : الهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق ، وإما أن تكون عبارة عن تحصيل تلك المعرفة وعلى التقديرين فقد دللنا على أنها أشرف المراتب البشرية وأعلى السعادات الحقيقية ، ودللنا على أنها ليست إلا من الله تعالى . وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق ولا في الإرشاد إلى الصدق ، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة ، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد ، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك ، وإذا كان كذلك كان الاشتغال بعبادتها جهلاً محضاً وسفهاً صرفاً ، فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال . المسألة الثانية : قال الزجاج : يقال هديت إلى الحق ، وهديت للحق بمعنى واحد ، والله تعالى ذكر هاتين اللغتين في قوله : { قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ أَفَمَن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ } . المسألة الثالثة : في قوله : { أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى } ست قراءات : الأول : قرأ ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع { يَهْدِى } بفتح الياء والهاء وتشديد الدال ، وهو اختيار أبي عبيدة وأبي حاتم ، لأن أصله يهتدي أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء . الثانية : قرأ نافع ساكنة الهاء مشددة الدال أدغمت التاء في الدال وتركت الهاء على حالها ، فجمع في قراءته بين ساكنين كما جمعوا في { يَخِصّمُونَ } [ يس : 49 ] قال علي بن عيسى وهو غلط على نافع . الثالثة : قرأ أبو عمرو بالإشارة إلى فتحة الهاء من غير إشباع فهو بين الفتح والجزم مختلسة على أصل مذهبه اختياراً للتخفيف ، وذكر علي بن عيسى أنه الصحيح من قراءة نافع . الرابعة : قرأ عاصم بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال فراراً من التقاء الساكنين ، والجزم يحرك بالكسر . الخامسة : قرأ حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء أتبع الكسرة للكسرة . وقيل : هو لغة من قرأ { نستعين ونعبد } السادسة : قرأ حمزة والكسائي { مَّن يَهْدِى } ساكنة الهاء وبتخفيف الدال على معنى يهتدي والعرب تقول : يهدي ، بمعنى يهتدي يقال : هديته فهدى أي اهتدى . المسألة الرابعة : في لفظ الآية إشكال ، وهو أن المراد من الشركاء في هذه الآية الأصنام وأنها جمادات لا تقبل الهداية ، فقوله : { أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يَهْدِي } لا يليق بها . والجواب من وجوه : الأول : لا يبعد أن يكون المراد من قوله : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } هو الأصنام . والمراد من قوله : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ } رؤساء الكفر والضلالة والدعاة إليها . والدليل عليه قوله سبحانه : { ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ وَرُهْبَـٰنَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ ٱللَّهِ } إلى قوله : { لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَـٰنَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] والمراد أن الله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الدين الحق بواسطة ما أظهر من الدلائل العقلية والنقلية . وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله تعالى ، فكان التمسك بدين الله تعالى أولى من قبول قول هؤلاء الجهال . الوجه الثاني : في الجواب أن يقال : إن القوم لما اتخذوها آلهة ، لا جرم عبر عنها كما يعبر عمن يعلم ويعقل ، ألا ترى أنه تعالى قال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأعراف : 194 ] مع أنها جمادات وقال : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ } [ فاطر : 14 ] فأجرى اللفظ على الأوثان على حسب ما يجري على من يعقل ويعلم فكذا ههنا وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل ، وإن لم يكن الأمر كذلك ، الثالث : أنا نحمل ذلك على التقدير ، يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي ، فإنها لا تهدي غيرها إلا بعد أن يهديها غيرها ، وإذا حملنا الكلام على هذا التقدير فقد زال السؤال . الرابع : أن البنية عندنا ليست شرطاً لصحة الحياة والعقل ، فتلك الأصنام حال كونها خشباً وحجراً قابلة للحياة والعقل ، وعلى هذا التقدير فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ثم إنها تشتغل بهداية الغير . الخامس : أن الهدى عبارة عن النقل والحركة يقال : هديت المرأة إلى زوجها هدى ، إذا نقلت إليه والهدي ما يهدى إلى الحرم من النعم ، وسميت الهدية هدية لانتقالها من رجل إلى غيره ، وجاء فلان يهادى بين اثنين إذا كان يمشي بينهما معتمداً عليهما من ضعفه وتمايله . إذا ثبت هذا فنقول : قوله : { أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يَهْدِى } يحتمل أن يكون معناه أنه لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه ، وعلى هذا التقدير فالمراد الإشارة إلى كون هذه الأصنام جمادات خالية عن الحياة والقدرة . واعلم أنه تعالى لما قرر على الكفار هذه الحجة الظاهرة قال : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } يعجب من مذهبهم الفاسد ومقالتهم الباطلة أرباب العقول . ثم قال تعالى : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا } وفيه وجهان : الأول : وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظناً ، لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم ، بل سمعوه من أسلافهم . الثاني : وما يتبع أكثرهم في قولهم الأصنام آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن والقول الأول أقوى ، لأنا في القول الثاني نحتاج إلى أن نفسر الأكثر بالكل . ثم قال تعالى : { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئًا } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : تمسك نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : العمل بالقياس عمل بالظن ، فوجب أن لا يجوز ، لقوله تعالى : { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئًا } . أجاب مثبتو القياس ، فقالوا : الدليل الذي دل على وجوب العمل بالقياس دليل قاطع ، فكان وجوب العمل بالقياس معلوماً ، فلم يكن العمل بالقياس مظنوناً بل كان معلوماً . أجاب المستدل عن هذا السؤال ، فقال : لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله تعالى لكان ترك العمل به كفراً لقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } [ المائدة : 44 ] ولما لم يكن كذلك ، بطل العمل به وقد يعدون عن هذه الحجة بأنهم قالوا : الحكم المستفاد من القياس إما أن يعلم كونه حكماً لله تعالى أو يظن أو لا يعلم ولا يظن والأول باطل وإلا لكان من لم يحكم به كافراً لقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } [ المائدة : 44 ] وبالاتفاق ليس كذلك . والثاني : باطل ، لأن العمل بالظن لا يجوز لقوله تعالى : { إَنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئًا } والثالث : باطل ، لأنه إذا لم يكن ذلك الحكم معلوماً ولا مظنوناً ، كان مجرد التشهي ، فكان باطلاً لقوله تعالى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ٱلصَّلَـوٰةَ وَٱتَّبَعُواْ ٱلشَّهَوٰتِ } [ مريم : 59 ] . وأجاب مثبتو القياس : بأن حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بالعمومات ، والتمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن . فلما كانت هذه العمومات دالة على المنع من التمسك بالظن ، لزم كونها دالة على المنع من التمسك بها ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً . المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن كل من كان ظاناً في مسائل الأصول ، وما كان قاطعاً ، فإنه لا يكون مؤمناً . فإن قيل : فقول أهل السنة أنا مؤمن إن شاء الله يمنع من القطع فوجب أن يلزمهم الكفر . قلنا : هذا ضعيف من وجوه : الأول : مذهب الشافعي رحمه الله : أن الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل ، والشك حاصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر الله تعالى ؟ والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية . الثاني : أن الغرض من قوله إن شاء الله بقاء الإيمان عند الخاتمة . الثالث : الغرض منه هضم النفس وكسرها والله أعلم .