Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 10, Ayat: 37-39)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } [ بونس : 20 ] ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز ، وأن محمداً إنما يأتي به من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق ، ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام ، وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع ، ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى ، ولكنه وحي نازل عليه من عند الله ، ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند الله تعالى ، وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات . المسألة الثانية : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ أَن يُفْتَرَىٰ } فيه وجهان : الأول : أن قوله : { أَن يُفْتَرَىٰ } في تقدير المصدر ، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء من دون الله ، كما تقول : ما كان هذا الكلام إلا كذباً . والثاني : أن يقال إن كلمة { أن } جاءت ههنا بمعنى اللام ، والتقدير : ما كان هذا القرآن ليفترى من دون الله ، كقوله : { وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } [ التوبة : 122 ] { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ … وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ } [ آل عمران : 179 ] أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك ، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله ، لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر ، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر ، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم : اختلف فلان هذا الحديث في الكذب ، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا الله عز وجل ، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور : الحجة الأولى : قوله : { وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } وتقرير هذه الحجة من وجوه : أحدها : أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم ، وما كانت مكة بلدة العلماء ، وما كان فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنه عليه السلام أتى بهذا القرآن ، فكان هذا القرآن مشتملاً على أقاصيص الأولين ، والقوم كانوا في غاية العداوة له ، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه ، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي ، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن فيه ، وعلى تقبيح صورته ، علمنا أنه أتى بتلك الأقاصيص مطابقة لما في التوراة والإنجيل ، مع أنه ما طالعهما ولا تلمذ لأحد فيهما ، وذلك يدل على أنه عليه السلام إنما أخبر عن هذه الأشياء بوحي من قبل الله تعالى . الحجة الثانية : أن كتب الله المنزلة دلت على مقدم محمد عليه السلام ، على ما استقصينا في تقريره في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] وإذا كان الأمر كذلك كان مجيء محمد عليه السلام تصديقاً لما في تلك الكتب ، من البشارة بمجيئه صلى الله عليه وسلم ، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه . الحجة الثالثة : أنه عليه السلام أخبر في القرآن عن الغيوب الكثيرة في المستقبل ، ووقعت مطابقة لذلك الخبر ، كقوله تعالى : { الم غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } [ الروم : 1 ، 2 ] الآية ، وكقوله تعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّؤْيَا بِٱلْحَقّ } [ الفتح : 27 ] وكقوله : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلاْرْضِ } [ النور : 55 ] وذلك يدل على أن الإخبار عن هذه الغيوب المستقبلة ، إنما حصل بالوحي من الله تعالى ، فكان ذلك عبارة عن تصديق الذي بين يديه ، فالوجهان الأولان : إخبار عن الغيوب الماضية والوجه الثالث : إخبار عن الغيوب المستقبلة ، ومجموعها عبارة عن تصديق الذي بين يديه . النوع الثاني : من الدلائل المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } . واعلم أن الناس اختلفوا في أن القرآن معجز من أي الوجوه ؟ فقال بعضهم : إنه معجز لاشتماله على الإخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ، وهذا هو المراد من قوله : { تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } ومنهم من قال : إنه معجز لاشتماله على العلوم الكثيرة ، وإليه الإشارة بقوله : { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } وتحقيق الكلام في هذا الباب أن العلوم إما أن تكون دينية أو ليست دينية ، ولا شك أن القسم الأول أرفع حالاً وأعظم شأناً وأكمل درجة من القسم الثاني . وأما العلوم الدينية ، فإما أن تكون علم العقائد والأديان ، وإما أن تكون علم الأعمال . أما علم العقائد والأديان فهو عبارة عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . أما معرفة الله تعالى ، فهي عبارة عن معرفة ذاته ومعرفة صفات جلاله ، ومعرفة صفات إكرامه ، ومعرفة أفعاله ، ومعرفة أحكامه ، ومعرفة أسمائه والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل وتفاريعها وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيء من الكتب ، بل لا يقرب منه شيء من المصنفات . وأما علم الأعمال فهو إما أن يكون عبارة عن علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه . ومعلوم أن جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثهم من القرآن ، وإما أن يكون علماً بتصفية الباطن أو رياضة القلوب . وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره ، كقوله : { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْى } [ النمل : 90 ] فثبت أن القرآن مشتمل على تفاصيل جميع العلوم الشريفة ، عقليها ونقليها ، اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب فكان ذلك معجزاً ، وإليه الإشارة بقوله : { وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ } . أما قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فتقريره : أن الكتاب الطويل المشتمل على هذه العلوم الكثيرة لا بد وأن يشتمل على نوع من أنواع التناقض ، وحيث خلي هذا الكتاب عنه ، علمنا أنه من عند الله وبوحيه وتنزيله ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول هذه الآية أن هذا القرآن لا يليق بحاله وصفته أن يكون كلاماً مفترى على الله تعالى ، وأقام عليه هذين النوعين من الدلائل المذكورة ، عاد مرة أخرى بلفظ الاستفهام على سبيل الإنكار ، فقال : { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ } ثم إنه تعالى ذكر حجة أخرى على إبطال هذا القول ، فقال : { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } وهذه الحجة بالغنا في تقريرها في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صادقين } [ البقرة : 23 ] وههنا سؤالات : السؤال الأول : لم قال في سورة البقرة : { مّن مّثْلِهِ } وقال ههنا : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } . والجواب : أن محمداً عليه السلام كان رجلاً أمياً ، لم يتلمذ لأحد ولم يطالع كتاباً فقال في سورة البقرة : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } يعني فليأت إنسان يساوي محمداً عليه السلام في عدم التلمذ وعدم مطالعة الكتب وعدم الاشتغال بالعلوم بسورة تساوي هذه السورة ، وحيث ظهر العجز ظهر المعجز . فهذا لا يدل على أن السورة في نفسها معجزة ، ولكنه يدل على أن ظهور مثل هذه السورة من إنسان مثل محمد عليه السلام في عدم التلمذ والتعلم معجز ، ثم إنه تعالى بين في هذه السورة أن تلك السورة في نفسها معجزة ، فإن الخلق وإن تلمذوا وتعلموا وطالعوا وتفكروا ، فإنه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سورة واحدة من هذه السور ، فلا جرم قال تعالى في هذه الآية : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } ولا شك أن هذا ترتيب عجيب في باب التحدي وإظهار المعجز . السؤال الثاني : قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } هل يتناول جميع السور الصغار والكبار ، أو يختص بالسور الكبار . الجواب : هذه الآية في سورة يونس وهي مكية ، فالمراد مثل هذه السورة ، لأنها أقرب ما يمكن أن يشار إليه . السؤال الثالث : أن المعتزلة تمسكوا بهذه الآية على أن القرآن مخلوق ، قالوا : إنه عليه السلام تحدى العرب بالقرآن ، والمراد من التحدي : أنه طلب منهم الإتيان بمثله ، فإذا عجزوا عنه ظهر كونه حجة من عند الله على صدقه ، وهذا إنما يمكن لو كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة ولو كان قديماً لكان الإتيان بمثل القديم محالاً في نفس الأمر ، فوجب أن لا يصح التحدي . والجواب : أن القرآن اسم يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله تعالى ، وعلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع في أن الكلمات المركبة من هذه الحروف والأصوات محدثة مخلوقة ، والتحدي إنما وقع بها لا بالصفة القديمة . أما قوله : { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } فالمراد منه : تعليم أنه كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة لو كانوا قادرين عليها ، وتقريره أن الجماعة إذا تعاونت وتعاضدت صارت تلك العقول الكثيرة كالعقل الواحد ، فإذا توجهوا نحو شيء واحد ، قدر مجموعهم على ما يعجز كل واحد منهم ، فكأنه تعالى يقول : هب أن عقل الواحد والاثنين منكم لا يفي باستخراج معارضة القرآن فاجتمعوا وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة ، فإذا عرفتم عجزكم حالة الاجتماع وحالة الانفراد عن هذه المعارضة ، فحينئذ يظهر أن تعذر هذه المعارضة إنما كان لأن قدرة البشر غير وافية بها ، فحينئذ يظهر أن ذلك فعل الله لا فعل البشر . واعلم أنه قد ظهر بهذا الذي قررناه أن مراتب تحدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن ستة ، فأولها : أنه تحداهم بكل القرآن كما قال : { قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] وثانيها : أنه عليه السلام تحداهم بعشر سور قال تعالى : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] وثالثها : أنه تحداهم بسورة واحدة كما قال : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ورابعها : أنه تحداهم بحديث مثله فقال : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] وخامسها : أن في تلك المراتب الأربعة ، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجل يساوي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم التلمذ والتعلم ، ثم في سورة يونس طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان سواء تعلم العلوم أو لم يتعلمها . وسادسها : أن في المراتب المتقدمة تحدى كل واحد من الخلق ، وفي هذه المرتبة تحدى جميعهم ، وجوز أن يستعين البعض بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة ، كما قال : { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } وههنا آخر المراتب ، فهذا مجموع الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات أن القرآن معجز ، ثم إنه تعالى ذكر السبب الذي لأجله كذبوا القرآن فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِيهِمُ تَأْوِيلِهِ } واعلم أن هذا الكلام يحتمل وجوهاً : الوجه الأول : أنهم كلما سمعوا شيئاً من القصص قالوا : ليس في هذا الكتاب إلا أساطير الأولين ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس هو نفس الحكاية بل أمور أخرى مغايرة لها : فأولها : بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ، ونقل أهله من العز إلى الذل ومن الذل إلى العز وذلك يدل على قدرة كاملة . وثانيها : أنها تدل على العبرة من حيث إن الإنسان يعرف بها أن الدنيا لا تبقى ، فنهاية كل متحرك سكون ، وغاية كل متكون أن لا يكون ، فيرفع قلبه عن حب الدنيا وتقوى رغبته في طلب الآخرة ، كما قال : { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ } [ يوسف : 111 ] وثالثها : أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر قصص الأولين من غير تحريف ولا تغيير مع أنه لم يتعلم ولم يتلمذ ، دل ذلك على أنه بوحي من الله تعالى ، كما قال في سورة الشعراء بعد أن ذكر القصص { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلاْمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 192 194 ] . والوجه الثاني : أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن . وقد أجاب الله تعالى عنه بقوله : { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ } [ آل عمران : 7 ] . والوجه الثالث : أنهم رأوا أن القرآن يظهر شيئاً فشيئاً ، فصار ذلك سبباً للطعن الرديء فقالوا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] وقد شرحنا هذا الجواب في سورة الفرقان . والوجه الرابع : أن القرآن مملوء من إثبات الحشر والنشر ، والقوم كانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت ، ولم يتقرر ذلك في قلوبهم ، فظنوا أن محمداً عليه السلام إنما يذكر ذلك على سبيل الكذب ، والله تعالى بين صحة القول بالمعاد بالدلائل القاهرة الكثيرة . الوجه الخامس : أن القرآن مملوء من الأمر بالصلاة والزكاة وسائر العبادات ، والقوم كانوا يقولون إله العالمين غني عنا وعن طاعتنا ، وإنه تعالى أجل من أن يأمر بشيء لا فائدة فيه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً } [ المؤمنون : 115 ] وبقوله : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] وبالجملة فشبهات الكفار كثيرة ، فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ولم يطلعوا على وجه الحكمة فيها لا جرم كذبوا بالقرآن ، والحاصل أن القوم ما كانوا يعرفون أسرار الإلهيات ، وكانوا يجرون الأمور على الأحوال المألوفة في عالم المحسوسات وما كانوا يطلبون حكمها ولا وجوه تأويلاتها ، فلا جرم وقعوا في التكذيب والجهل ، فقوله : { بَلْ كَذَّبُواْ لَّمّاً لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } إشارة إلى عدم علمهم بهذه الأشياء ، وقوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } إشارة إلى عدم جدهم واجتهادهم في طلب تلك الأسرار . ثم قال : { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ } والمراد أنهم طلبوا الدنيا وتركوا الآخرة ، فلما ماتوا فاتتهم الدنيا والآخرة فبقوا في الخسار العظيم ، ومن الناس من قال المراد منه عذاب الاستئصال وهو الذي نزل بالأمم الذين كذبوا الرسل من ضروب العذاب في الدنيا ، قال أهل التحقيق قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة ، لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة ، فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق ، أما إذا عرف وجه التأويل طبق التنزيل على التأويل فيصير ذلك نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء .