Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 15, Ayat: 51-56)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير أمر النبوة ثم أردفه بذكر دلائل التوحيد ، ثم ذكر عقيبه أحوال القيامة وصفة الأشقياء والسعداء ، أتبعه بذكر قصص الأنبياء عليهم السلام ليكون سماعها مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأنبياء ، ومحذراً عن المعصية لاستحقاق دركات الأشقياء ، فبدأ أولاً بقصة إبراهيم عليه السلام ، والضمير في قوله : { وَنَبّئْهُمْ } راجع إلى قوله : { عِبَادِى } والتقدير : ونبىء عبادي عن ضيف إبراهيم ، يقال : أنبأت القوم إنباء ونبأتهم تنبئة إذا أخبرتهم وذكر تعالى في الآية أن ضيف إبراهيم عليه السلام بشروه بالولد بعد الكبر . وبانجاء المؤمنين من قوم لوط من العذاب وأخبروه أيضاً بأنه تعالى سيعذب الكفار من قوم لوط بعذاب الاستئصال ، وكل ذلك يقوي ما ذكره من أنه غفور رحيم للمؤمنين ، وأن عذابه عذاب أليم في حق الكفار . المسألة الثانية : الضيف في الأصل مصدر ضاف يضيف إذا أتى إنساناً لطلب القرى ، ثم سمى به ، ولذلك وحد في اللفظ وهم جماعة . فإن قيل : كيف سماهم ضيفاً مع امتناعهم عن الأكل ؟ قلنا : لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك . وقيل أيضاً : إن من يدخل دار الإنسان ويلتجىء إليه يسمى ضيفاً وإن لم يأكل ، وقوله تعالى : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا } أي نسلم عليك سلاماً أو سلمت سلاماً ، فقال إبراهيم : { إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي خائفون ، وكان خوفه لامتناعهم من الأكل . وقيل : لأنهم دخلوا عليه بغير إذن وبغير وقت وقرأ الحسن : { لاَ تَوْجَلْ } بضم التاء من أوجله يوجله إذا أخافه . وقرىء لا تأجل ولا تواجل من واجله بمعنى أو جله ، وهذه القصة قد مر ذكرها بالاستقصاء في سورة هود . وقوله : { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } فيه أبحاث : البحث الأول : قرأ حمزة : { إِنَّا نُبَشّرُكَ } بفتح النون ، وتخفيف الباء ، والباقون : { نُبَشّرُكَ } بالتشديد . البحث الثاني : قوله : { إنا نُبَشّرُكَ } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل ، والمعنى : أنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل . البحث الثالث : قوله : { إِنَّا نُبَشّرُكَ بِغُلَـٰمٍ عَلِيمٍ } بشروه بأمرين : أحدهما : أن الولد ذكر والآخر أنه يصير عليماً ، واختلفوا في تفسير العليم ، فقيل : بشروه بنبوته بعده . وقيل : بشروه بأنه عليم بالدين . ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون ، فمعنى : { عَلَىٰ } ههنا للحال أي حالة الكبر ، وقوله : { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } فيه مسألتان : المسألة الأولى : لفظ ما ههنا استفهام بمعنى التعجب كأنه قال : بأي أعجوبة تبشروني ؟ فإن قيل : في الآية إشكالان : الأول : أنه كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلق الولد منه في زمان الكبر وإنكار قدرة الله تعالى في هذا الموضع كفر . الثاني : كيف قال : { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } مع أنهم قد بينوا ما بشروه به ، وما فائدة هذا الإستفهام . قال القاضي : أحسن ما قيل في الجواب عن ذلك أنه أراد أن يعرف أنه تعالى يعطيه الولد مع أنه يبقيه على صفة الشيخوخة أو يقلبه شاباً ، ثم يعطيه الولد ، والسبب في هذا الاستفهام أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامة وإنما يحصل في حال الشباب . فإن قيل : فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم فلم قالوا : بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين . قلنا : إنهم بينوا أن الله تعالى بشره بالولد مع إبقائه على صفة الشيخوخة وقوله : فلا تكن من القانطين . لا يدل على أنه كان كذلك ، بدليل أنه صرح في جوابهم بما يدل على أنه ليس كذلك فقال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } وفيه جواب آخر ، وهو أن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيء وفاته الوقت الذي يغلب على ظنه حصول ذلك المراد فيه ، فإذا بشر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه وسروره ويصير ذلك الفرح القوي كالمدهش له والمزيل لقوة فهمه وذكائه فلعله يتكلم بكلمات مضطربة في ذلك الفرح في ذلك الوقت ، وقيل أيضاً : إنه يستطيب تلك البشارة فربما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة ، وطلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق مثل قوله : { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } [ البقرة : 260 ] وقيل أيضاً : استفهم أبأمر الله تبشرون أم من عند أنفسكم واجتهادكم ؟ المسألة الثانية : قرأ نافع : { تُبَشّرُونَ } بكسر النون خفيفة في كل القرآن ، وقرأ ابن كثير بكسر النون وتشديدها . والباقون بفتح النون خفيفة ، أما الكسر والتشديد فتقديره تبشرونني أدغمت نون الجمع في نون الإضافة ، وأما الكسر والتخفيف فعلى حذف نون الجمع استثقالاً لاجتماع المثلين وطلباً للتخفيف قال أبو حاتم : حذف نافع الياء مع النون . قال : وإسقاط الحرفين لا يجوز ، وأجيب عنه : بأنه أسقط حرفاً واحداً وهي النون التي هي علامة للرفع . وعلى أن حذف الحرفين جائز قال تعالى في موضع : { وَلاَ تَكُ } وفي موضع : { وَلاَ تَكُن } فأما فتح النون فعلى غير الإضافة والنون علامة الرفع وهي مفتوحة أبداً ، وقوله : { بَشَّرْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ } قال ابن عباس : يريد بما قضاه الله تعالى والمعنى : أن الله تعالى قضى أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق عليه السلام . ويخرج من صلب إسحق مثل ما أخرج من صلب آدم فإنه تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحق أكثر الأنبياء فقوله : { بِٱلْحَقّ } إشارة إلى هذا المعنى وقوله : { فَلاَ تَكُن مّنَ ٱلْقَـٰنِطِينَ } نهي لإبراهيم عليه السلام عن القنوط وقد ذكرنا كثيراً أن نهي الإنسان عن الشيء لا يدل على كون المنهى فاعلاً للمنهى عنه كما في قوله : { وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَـٰفِرِينَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ } [ الأحزاب : 1 ] ثم حكى تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه قال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : هذا الكلام حق ، لأن القنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلا عند الجهل بأمور : أحدها : أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه . وثانيها أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه . وثالثها : أن يجهل كونه تعالى منزهاً عن البخل والحاجة والجهل فكل هذه الأمور سبب للضلال ، فلهذا المعنى قال : { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ } . المسألة الثانية : قرأ أبو عمرو والكسائي : يقنط بكسر النون ولا تقنطوا كذلك ، والباقون بفتح النون وهما لغتان : قنط يقنط ، نحو ضرب يضرب ، وقنط يقنط نحو علم يعلم ، وحكى أبو عبيدة : قنط يقنط بضم النون ، قال أبو علي الفارسي : قنط يقنط بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات يدل على ذلك اجتماعهم في قوله : { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] وحكاية أبي عبيدة تدل أيضاً على أن قنط بفتح النون أكثر ، لأن المضارع من فعل يجيء على يفعل ويفعل مثل فسق يفسق ويفسق ولا يجيء مضارع فعل على يفعل ، والله أعلم .