Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 17, Ayat: 7-8)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفيه مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنهب والسبي ، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة ، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم ، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم ، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب ، وأن الإساءة إليها قبيحة ، فلهذا المعنى قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } . المسألة الثانية : قال الواحدي : لا بد ههنا من إضمار ، والتقدير : وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، والمعنى : إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات ، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات . المسألة الثالثة : قال النحويون : إنما قال : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } للتقابل والمعنى : فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض ، كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا } [ الزلزلة : 4 ، 5 ] أي إليها . المسألة الرابعة : قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ } ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك . ثم قال تعالى : { فَإِذَا جَاء وَعْدُ ٱلأَخِرَةِ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال المفسرون : معناه وعد المرة الأخيرة ، وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام . قال الواحدي : فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول : التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة ، ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له : قسطنطين الملك - والله أعلم بأحوالهم - ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام . المسألة الثانية : جواب قوله : { فَإِذَا جَاء } محذوف تقديره : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا } [ الإسراء : 5 ] ثم قال : { ليسوؤا وُجُوهَكُمْ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : يقال : ساءه يسوءه أي أحزنه ، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه ، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه ، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه . وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه ، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية ، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن . المسألة الثانية : قرأ العامة : ليسوؤا على صيغة المغايبة ، قال الواحدي : وهي موافقة للمعنى وللفظ . أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة ، لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله : { وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ } وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة : { ليسوء } على إسناد الفعل إلى الواحد ، وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة : إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله : { ثم رددنا … وأمددناكم } [ الإسراء : 6 ] ، وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى ، وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله : { بَعَثْنَا } والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ } [ آل عمران : 180 ] وقال الزجاج : ليسوء الوعد وجوهكم ، وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله : { بعثنا عليكم } { أمددناكم } . ثم قال تعالى : { وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } يقال : تبر الشيء تبراً إذا هلك وتبره أهلكه . قال الزجاج : كل شيء جعلته مكسراً ومفتتاً فقد تبرته ، ومنه قيل : تبر الزجاج وتبر الذهب لمكسره ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَـٰطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 139 ] وقوله : { وَلاَ تَزِدِ ٱلظَّـٰلِمِينَ إلا تباراً } [ نوح : 28 ] وقوله : { مَا عَلَوْاْ } يحتمل ما غلبوا عليه وظفروا به ، ويحتمل ويتبروا ما داموا غالبين ، أي ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل ، وقوله : { تَتْبِيرًا } ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر وإزالة الشك في صدقه كقوله : { وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [ النساء : 164 ] أي حقاً ، والمعنى : وليدمروا ويخربوا ما غلبوا عليه . ثم قال تعالى : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } والمعنى : لعل ربكم أن يرحمكم ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم يا بني إسرائيل . ثم قال : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } يعني : أن بعثنا عليكم من بعثنا ، ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي ، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم ، فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى . قال القفال : إنما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ } [ الأعراف : 167 ] ثم قال : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي وهو التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل ، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب . فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء ، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان . ثم قال تعالى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـٰفِرِينَ حَصِيرًا } والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل ، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم ، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول ، أي جعلناها موضعاً محصوراً لهم ، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديداً قوياً إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه ، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه ، إما بالموت وإما بطريق آخر ، وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصراً للإنسان محيطاً به لا رجاء في الخلاص عنه ، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطاً بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبداً .