Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 183-183)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن هذه هي الشبهة الثانية للكفار في الطعن في نبوته صلى الله عليه وسلم ، وتقريرها أنهم قالوا : ان الله عهد الينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وأنت يا محمد ما فعلت ذلك فوجب أن لا تكون من الأنبياء ، فهذا بيان وجه النظم ، وفي الآية مسائل . المسألة الأولى : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن التابوب ، وفنحاص بن عازوراء وغيرهم ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد تزعم أنك رسول الله وأنه تعالى أنزل عليك كتاباً ، وقد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، ويكون لها دوي خفيف ، تنزل من السماء ، فان جئتنا بهذا صدقناك ، فنزلت هذه الآية . قال عطاء : كانت بنو اسرائيل يذبحون لله ، فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت ، والسقف مكشوف فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه ، وبنو اسرائيل خارجون واقفون حول البيت فتنزل نار بيضاء لها دوي خفيف ولا دخان لها فتأكل كل ذلك القربان . واعلم أن للعلماء فيما ادعاه اليهود قولين : الأول وهو قول السدى : أن هذا الشرط جاء في التوراة ولكنه مع شرط ، وذلك أنه تعالى قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما السلام . فانهما اذا أتيا فآمنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان تأكله النار . قال : وكانت هذه العادة باقية الى مبعث المسيح عليه السلام ، فلما بعث الله المسيح ارتفعت وزالت . القول الثاني : ان ادعاء هذا الشرط كذب على التوراة ، ويدل عليه وجوه : أحدها : أنه لو كان ذلك حقاً لكانت معجزات كل الأنبياء هذا القربان ، ومعلوم أنه ما كان الأمر كذلك ، فان معجزات موسى عليه السلام عند فرعون كانت أشياء سوى هذا القربان . وثانيها : أن نزول هذه النار وأكلها للقربان معجزة فكانت هي وسائر المعجزات على السواء ، فلم يكن في تعيين هذه المعجزة وتخصيصها فائدة ، بل لما ظهرت المعجزة القاهرة على يد محمد عليه الصلاة والسلام وجب القطع بنبوته سواء ظهرت هذه المعجزة أو لم تظهر . وثالثها : أنه إما أن يقال إنه جاء في التوراة أن مدعي النبوة وإن جاء بجميع المعجزات فلا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه المعجزة المعينة ، أو يقال جاء في التوراة أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة سواء كانت المعجزة هي مجيء النار ، أو شيء آخر ، والأول باطل ، لأن على هذا التقدير لم يكن الاتيان بسائر المعجزات دالا على الصدق ، وإذا جاز الطعن في سائر المعجزات جاز الطعن أيضاً في هذه المعجزة المعينة . وأما الثاني : فانه يقتضي توقيت الصدق على ظهور مطلق المعجزة ، لا على ظهور هذه المعجزة المعينة ، فكان اعتبار هذه المعجزة عبثا ولغوا ، فظهر بما ذكرنا سقوط هذه الشبهة بالكلية ، والله أعلم . المسألة الثانية : في محل { ٱلَّذِينَ } وجوه : أحدها : قال الزجاج : الجر ، وهذا نعت العبيد ، والتقدير : وما ربك بظلام للعبيد الذين قالوا كذا وكذا . وثانيها : أن التقدير : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ، وقول الذين قالوا إن الله عهد إلينا . وثالثها : أن يكون رفعا بالابتداء والتقدير : هم الذين قالوا ذلك . المسألة الثالثة : قال الواحدي رحمه الله : القربان البر الذي يتقرب به إلى الله ، وأصله المصدر من قولك قرب قربانا ، كالكفران والرجحان والخسران ، ثم سمى به نفس المتقرب به ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لكعب بن عجرة " " يا كعب الصوم جُنَّةٌ والصلاة قربان " " أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه . واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة فقال : { قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى بين بهذه الدلائل أنهم يطلبون هذه المعجزة لا على سبيل الاسترشاد ، بل على سبيل التعنت ، وذلك لأن أسلاف هؤلاء اليهود طلبوا هذا المعجز من الأنبياء المتقدمين مثل زكريا وعيسى ويحيى عليهم السلام ، وهم أظهروا هذا المعجز ، ثم إن اليهود سعوا في قتل زكرياء ويحيى ، ويزعمون أنهم قتلوا عيسى عليه السلام أيضاً ، وذلك يدل على أن أولئك القوم إنما طلبوا هذا المعجز من أولئك الأنبياء على سبيل التعنت ، إذ لو لم يكن كذلك لما سعوا في قتلهم ، ثم إن المتأخرين راضون بأفعال أولئك المتقدمين ومصوبون لهم في كل ما فعلوه ، وهذا يقتضي كون هؤلاء في طلب هذا المعجز من محمد عليه الصلاة والسلام متعنتين ، واذا ثبت أن طلبهم لهذا المعجز وقع على سبيل التعنت لا على سبيل الاسترشاد ، لم يجب في حكمة الله إسعافهم بذلك ، لا سيما وقد تقدمت المعجزات الكثيرة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الجواب شاف عن هذه الشبهة . المسألة الثانية : إنما قال : { قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى } ولم يقل جاءتكم رسل لأن فعل المؤنث يذكر إذا تقدمه . المسألة الثالثة : المراد بقوله : { وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ } هو ما طلبوه منه ، وهو القربان الذي تأكله النار . واعلم أنه تعالى لم يقل : قد جاءكم رسل من قبلي بالذي قلتم ، بل قال : { قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ } والفائدة : أن القوم قالوا : ان الله تعالى وقف التصديق بالنبوة على ظهور القربان الذي تأكله النار ، فلو أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بهذا القربان ، لم يلزم من هذا القدر وجوب الاعتراف بنبوتهم ، لاحتمال أن الاتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم عند عدمه عدم المشروط ، لكن لا يلزم عند وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القدر لما كان الالزام واردا ، أما لما قال : { قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَبِٱلَّذِى قُلْتُمْ } كان الالزام واردا ، لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتوا بالموجب للتصديق ، ولما أتوا بهذا القربان فقد اتوا بالشرط ، وعند الاتيان بهما كان الاقرار بالنبوة واجبا ، فثبت أنه لولا قوله : { جَاءكُمْ . … بِٱلْبَيّنَـٰت } لم يكن الالزام واردا على القوم ، والله أعلم .