Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 184-185)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في قوله : { فَإِن كَذَّبُوكَ } وجوه : أحدها : فان كذبوك في قولك أن الأنبياء المتقدمين جاؤا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم ، فقد كذب رسل من قبلك : نوح وهود وصالح وابراهيم وشعيب وغيرهم . والثاني : أن المراد : فإن كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ، ولعل هذا الوجه أوجه ، لأنه تعالى لم يخصص ، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج . والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء ، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم ، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة ، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى ، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت ، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات ، وأما الزبر فهي الكتب ، وهي جمع زبور ، والزبور الكتاب ، بمعنى المزبور أي المكتوب ، يقال : زبرت الكتاب أي كتبته ، وكل كتاب زبور . قال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة ، وعلى هذا : الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر ، يقال : زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل ، وسمي الكتاب زبوراً لما فيه من الزبر عن خلاف الحق ، وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ . وقرأ ابن عباس { وَبِٱلزُّبُرِ } أعاد الباء للتأكيد وأما « المنير » فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته ، وفي الآية مسألتان . المسألة الأولى : المراد من البينات المعجزات ثم عطف عليها الزبر والكتاب ، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم ، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم ، فالتوراة والانجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة ، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة ، وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام . المسألة الثانية : عطف « الكتاب المنير » على « الزبر » مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر ، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر ، فحسن العطف كما في قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] وقال : { مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وَمَلـٰئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ } [ البقرة : 98 ] ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة ، أو كونه باقياً على وجه الدهر ، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر : الصحف ، وبالكتاب المنير التوراة والانجيل والزبور . قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } . اعلم ان المقصود من هذه الآية تأكيد تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام والمبالغة في إزالة الحزن من قلبه وذلك من وجهين : أحدهما : أن عاقبة الكل الموت ، وهذه الغموم والأحزان تذهب وتزول ولا يبقى شيء منها ، والحزن متى كان كذلك لم يلتفت العاقل اليه . والثاني : أن بعد هذه الدار دار يتميز فيها المحسن عن المسيء ، ويتوفر على عمل كل واحد ما يليق به من الجزاء ، وكل واحد من هذين الوجهين في غاية القوة في إزالة الحزن والغم عن قلوب العقلاء ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : في قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } سؤال : وهو أن الله تعالى يسمى بالنفس قال : { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] وأيضاً النفس والذات واحد فعلى هذا يدخل الجمادات تحت اسم النفس ، ويلزم على هذا عموم الموت في الجمادات ، وأيضاً قال تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] وذلك يقتضي أن لا يموت الداخلون في هذا الاستثناء ، وهذا العموم يقتضي موت الكل ، وأيضاً يقتضي وقوع الموت لأهل الجنة ولأهل النار لأن كلهم نفوس . وجوابه : أن المراد بالآية المكلفون الحاضرون في دار التكليف بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } فان هذا المعنى لا يتأتى إلا فيهم ، وأيضا العام بعد التخصيص يبقى حجة . المسألة الثانية : { ذَائِقَةُ } فاعلة من الذوق ، واسم الفاعل إذا أضيف إلى اسم وأريد به الماضي لم يجز فيه إلا الجر ، كقولك : زيد ضارب عمرو أمس ، فان أردت به الحال والاستقبال جاز الجر والنصب تقول : هو ضارب زيد غدا ، وضارب زيدا غدا ، قال تعالى : { هَلْ هُنَّ كَـٰشِفَـٰتُ ضُرّهِ } [ الزمر : 38 ] قرىء بالوجهين لأنه للاستقبال . وروي عن الحسن أنه قرأ { ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } بالتنوين ونصب « الموت » وهذا هو الأصل وقرأ الأعمش { ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } بطرح التنوين مع النصب كقوله : @ ولا ذاكر الله إلا قليلا @@ وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في سورة النساء عند قوله : { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] ان شاء الله تعالى . المسألة الثالثة : زعمت الفلاسفة ان الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية ، وذلك لأن هذه الحياة الجسمانية لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية ، ثم ان الحرارة الغريزية تؤثر في تحليل الرطوبة الغريزية ، ولا تزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت ، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة . قالوا وقوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } يدل على أن النفوس لا تموت بموت البدن ، لأنه جعل النفس ذائقة الموت ، والذائق لا بد وأن يكون باقيا حال حصول الذوق ، والمعنى أن كل نفس ذائقة موت البدن ، وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن ، وأيضا : لفظ النفس مختص بالأجسام ، وفيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختصة بالحياة الجسمانية ، فأما الأرواح المجردة فلا ، وقد جاء في الروايات ما هو خلاف ذلك ، فانه روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] قالت الملائكة مات أهل الأرض ، ولما نزل قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } قالت الملائكة متنا . المسألة الرابعة : قوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } يدل على أن المقتول يسمى بالميت وإنما لا يسمى المذكى بالميت بسبب التخصيص بالعرف . ثم قال تعالى : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } بين تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل الى المكلف إلا يوم القيامة ، لأن كل منفعة تصل الى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم وبخوف الانقطاع والزوال ، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل الى المكلف يوم القيامة لأن هناك يحصل السرور بلا غم ، والأمن بلا خوف ، واللذة بلا ألم . والسعادة بلا خوف الانقطاع ، وكذا القول في جانب العقاب فانه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة ، بل يمتزج به راحات وتخفيفات ، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة ، نعوذ بالله منه . ثم قال تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } الزحزحة التنحية والابعاد ، وهو تكرير الزح ، والزح هو الجذب بعجلة ، وهذا تنبيه على أن الانسان حينما كان في الدنيا كأنه كان في النار ، وما ذاك إلا لكثرة آفاتها وشدة بلياتها ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " " الدنيا سجن المؤمن " . " واعلم أنه لا مقصود للانسان وراء هذين الأمرين ، الخلاص عن العذاب ، والوصول الى الثواب ، فبين تعالى أن من وصل الى هذين المطلوبين فقد فاز بالمقصد الأقصى والغاية التي لا مطلوب بعدها . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها " " وقرأ قوله تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فاز } وقال عليه الصلاة والسلام : " " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليؤت الى الناس ما يحب أن يؤتى اليه " . " ثم قال : { وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ } الغرور مصدر من قولك : غررت فلاناً غروراً شبه الله الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر عليه حتى يشتريه ثم يظهر له فساده ورداءته والشيطان هو المدلس الغرور ، وعن سعيد بن جبير : أن هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما من طلب الآخرة بها فانها نعم المتاع ، والله أعلم . واعلم أن فساد الدنيا من وجوه : أولها : أنه لو حصل للانسان جميع مراداته لكان غمه وهمه أزيد من سروره ، لأجل قصر وقته وقلة الوثوق به وعدم علمه بأنه هل ينتفع به أم لا ، وثانيها : أن الانسان كلما كان وجدانه بمرادات الدنيا أكثر كان حرصه في طلبها أكثر ، ولكما كان الحرص أكثر كان تألم القلب بسبب ذلك الحرص أشد ، فان الانسان يتوهم أنه إذا فاز بمقصوده سكنت نفسه وليس كذلك ، بل يزداد طلبه وحرصه ورغبته ، وثالثها : أن الانسان بقدر ما يجد من الدنيا يبقى محروما عن الآخرة التي هي أعظم السعادات والخيرات ، ومتى عرفت هذه الوجوه الثلاثة علمت أن الدنيا متاع الغرور ، وأنها كما وصفها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث قال : لين مسها قاتل سمها . وقال بعضهم : الدنيا ظاهرها مطية السرور ، وباطنها مطية الشرور .