Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 186-186)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] زاد في تسليته بهذه الآية ، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد ، فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم ، من الايذاء بالنفس والايذاء بالمال ، والغرض من هذا الاعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع ، وذلك لأن الانسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فاذا انزل البلاء عليه شق ذلك عليه ، أما اذا كان عالما بأنه سينزل ، فاذا نزل لم يعظم وقعه عليه . أما قوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : قال الواحدي رحمه الله : اللام لام القسم ، والنون دخلت مؤكدة وضمت الواو لسكونها وسكون النون ، ولم تكسر لالتقاء الساكنين لأنها واو جمع فحركت بما كان يجب لما قبلها من الضم ، ومثله { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَة } [ البقرة : 16 ] . المسألة الثانية : { لَتُبْلَوُنَّ } لتختبرن ، ومعلوم أنه لا يجوز في وصف الله تعالى الاختبار لأنه طلب المعرفة ليعرف الجيد من الردىء ، ولكن معناه في وصف الله تعالى أنه يعامل العبد معاملة المختبر . المسألة الثالثة : اختلفوا في معنى هذا الابتلاء فقال بعضهم : المراد ما ينالهم من الشدة والفقر وما ينالهم من القتل والجرح والهزيمة من جهة الكفار ، ومن حيث ألزموا الصبر في الجهاد . وقال الحسن : المراد به التكاليف الشديدة المتعلقة بالبدن والمال ، وهي الصلاة والزكاة والجهاد . قال القاضي : والظاهر يحتمل كل واحد من الأمرين فلا يمتنع حمله عليهما . وأما قوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } فالمراد منه أنواع الايذاء الحاصلة من اليهود والنصارى والمشركين للمسلمين ، وذلك لأنهم كانوا يقولون عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وكانوا يطعنون في الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ما يقدرون عليه ، ولقد هجاه كعب بن الأشرف ، وكانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم . وأما المشركون فهم كانوا يحرضون الناس على مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجمعون العساكر على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ويثبطون المسلمين عن نصرته ، فيجب أن يكون الكلام محمولا على الكل إذ ليس حمله على البعض أولى من حمله على الثاني . ثم قال عطفا على الأمرين : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال المفسرون : بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر الى فنحاص اليهودي يستمده ، فقال فنحاص قد احتاج ربك الى أن نمده ، فهم أبو بكر رضي الله عنه أن يضربه بالسيف ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إلي ، فتذكر أبو بكر رضي الله عنه ذلك وكف عن الضرب ونزلت هذه الآية . المسألة الثانية : للآية تأويلان : الأول : أن المراد منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفس والمال ، والمصابرة على تحمل الأذى وترك المعارضة والمقابلة ، وإنما أوجب الله تعالى ذلك لأنه أقرب الى دخول المخالف في الدين ، كما قال : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [ طه : 44 ] وقال : { قُل لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } [ الجاثية : 14 ] والمراد بهذا الغفران الصبر وترك الانتقام وقال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وقال : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] وقال : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] قال الواحدي رحمه الله : كان هذا قبل نزول آية السيف . قال القفال رحمه الله : الذي عندي أن هذا ليس بمنسوخ والظاهر أنها نزلت عقيب قصة أحد ، والمعنى أنهم أمروا بالصبر على ما يؤذون به الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال . والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه ، واعلم أن قول الواحدي ضعيف ، والقول ما قاله القفَّال . الوجه الثاني في التأويل : أن يكون المراد من الصبر والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والانكار عليهم ، فأمروا بالصبر على مشاق الجهاد ، والجري على نهج أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الانكار على اليهود والاتقاء عن المداهنة مع الكفار ، والسكوت عن إظهار الانكار . المسألة الثالثة : الصبر عبارة عن احتمال المكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي فقدم ذكر الصبر ثم ذكر عقبه التقوى ، لأن الانسان إنما يقدم على الصبر لأجل أنه يريد الاتقاء عما لا ينبغي ، وفيه وجه آخر : وهو أن المراد من الصبر هو أن مقابلة الاساءة بالاساءة تفضي إلى ازدياد الاساءة ، فأمر بالصبر تقليلا لمضار الدنيا ، وأمر بالتقوى تقليلا لمضار الآخرة ، فكانت الآية على هذا التأويل جامعة لآداب الدنيا والآخرة . المسألة الرابعة : قوله : { مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } أي من صواب التدبير الذي لا شك في ظهور الرشد فيه ، وهو مما ينبغي لكل عاقل أن يعزم عليه ، فتأخذ نفسه لا محالة به ، والعزم كأنه من جملة الحزم وأصله من قول الرجل : عزمت عليك أن تفعل كذا ، أي ألزمته إياك لا محالة على وجه لا يجوز ذلك الترخص في تركه ، فما كان من الأمور حميد العاقبة معروفاً بالرشد والصواب فهو من عزم الأمور لأنه مما لا يجوز لعاقل أن يترخص في تركه ، ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون معناه : فإن ذلك مما قد عزم عليكم فيه أي ألزمتم الأخذ به ، والله أعلم .