Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 42-43)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
القصة الثالثةوصفه طهارة مريم صلوات الله عليها وفيه مسائل : المسألة الأولى : عامل الإعراب ههنا في { إِذْ } هو ما ذكرناه في قوله { إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرٰنَ } [ آل عمران : 35 ] من قوله { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ثم عطف عليه { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـئِكَةُ } وقيل : تقديره واذكر إذ قالت الملائكة . المسألة الثانية : قالوا المراد بالملائكة ههنا جبريل وحده ، وهذا كقوله { يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } [ النحل : 2 ] يعني جبريل ، وهذا وإن كان عدولاً عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه ، لأن سورة مريم دلت على أن المتكلم مع مريم عليها السلام هو جبريل عليه السلام ، وهو قوله { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] . المسألةالثالثة : اعلم أن مريم عليها السلام ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [ يوسف : 109 ] وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل عليه السلام إليها إما أن يكون كرامة لها ، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء ، أو إرهاصاً لعيسى عليه السلام ، وذلك جائز عندنا ، وعند الكعبي من المعتزلة ، أو معجزة لزكرياء عليه السلام ، وهو قول جمهور المعتزلة ، ومن الناس من قال : إن ذلك كان على سبيل النفث في الروع والإلهام والإلقاء في القلب ، كما كان في حق أم موسى عليه السلام في قوله { وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمّ مُوسَىٰ } [ القصص : 7 ] . المسألة الرابعة : اعلم أن المذكور في هذه الآية أولاً : هو الاصطفاء ، وثانياً : التطهير ، وثالثاً : الاصطفاء على نساء العالمين ، ولا يجوز أن يكون الاصطفاء أولاً من الاصطفاء الثاني ، لما أن التصريح بالتكرير غير لائق ، فلا بد من صرف الاصطفاء الأول إلى ما اتفق لها من الأمور الحسنة في أول عمرها ، والاصطفاء الثاني إلى ما اتفق لها في آخر عمرها . النوع الأول من الاصطفاء : فهو أمور أحدها : أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى ولم يحصل مثل هذا المعنى لغيرها من الإناث وثانيها : قال الحسن : إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، وكان رزقها يأتيها من الجنة وثالثها : أنه تعالى فرغها لعبادته ، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ورابعها : أنه كفاها أمر معيشتها ، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على ما قال الله تعالى : { أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } وخامسها : أنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها ، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها ، فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول ، وأما التطهير ففيه وجوه أحدها : أنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية ، فهو كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم { وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً } [ الأحزاب : 33 ] وثانيها : أنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال وثالثها : طهرها عن الحيض ، قالوا : كانت مريم لا تحيض ورابعها : وطهرك من الأفعال الذميمة ، والعادات القبيحة وخامسها : وطهرك عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم . وأما الاصطفاء الثاني : فالمراد أنه تعالى وهب لها عيسى عليه السلام من غير أب ، وأنطق عيسى حال انفصاله منها حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة ، وجعلها وابنها آية للعالمين ، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة . المسألة الخامسة : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " " حسبك من نساء العالمين أربع : مريم وآسية امرأة فرعون ، وخديجة ، وفاطمة عليهن السلام " " فقيل هذا الحديث دل على أن هؤلاء الأربع أفضل من النساء ، وهذه الآي دلت على أن مريم عليها السلام أفضل من الكل ، وقول من قال المراد إنها مصطفاة على عالمي زمانها ، فهذا ترك الظاهر . ثم قال تعالى : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِى لِرَبّكِ وَٱسْجُدِى } وقد تقدم تفسير القنوت في سورة البقرة في قوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـٰنِتِينَ } [ البقرة : 238 ] وبالجملة فلما بيّن تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات ، شكراً لتلك النعم السنية ، وفي الآية سؤالات : السؤال الأول : لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع ؟ . والجواب من وجوه الأول : أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب الثاني : أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجداً قال عليه الصلاة والسلام : " " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد " " فلما كان السجود مختصاً بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات . ثم قال : { وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلركِعِينَ } وهو إشارة إلى الأمر بالصلاة ، فكأنه تعالى يأمرها بالمواظبة على السجود في أكثر الأوقات ، وأما الصلاة فإنها تأتي بها في أوقاتها المعينة لها والثالث : قال ابن الأنباري : قوله تعالى : { ٱقْنُتِى } أمر بالعبادة على العموم ، ثم قال بعد ذلك { وَٱسْجُدِى وَٱرْكَعِى } يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، واستعملي الركوع في وقته اللائق به ، وليس المراد أن يجمع بينهما ، ثم يقدم السجود على الركوع والله أعلم الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً كما قيل في قوله { وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ } [ ق : 40 ] وفي الحديث " " إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين " " وأيضاً المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة ، وأيضاً أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز . إذا ثبت هذا فنقول قوله { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِى } معناه : يا مريم قومي ، وقوله { وَٱسْجُدِى } أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة ، ثم قال : { وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلرٰكِعِينَ } إما أن يكون أمراً لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله { وَٱسْجُدِى } أمراً بالصلاة حال الانفراد ، وقوله { وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلرٰكِعِينَ } أمراً بالصلاة في الجماعة ، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله { وَٱسْجُدِى } أمراً ظاهراً بالصلاة ، وقوله { وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلرٰكِعِينَ } أمراً بالخضوع والخشوع بالقلب . الوجه الخامس في الجواب : لعلّه كان السجود في ذلك الدين متقدماً على الركوع . السؤال الثاني : اما المراد من قوله { وَٱرْكَعِى مَعَ ٱلركِعِينَ } . والجواب : قيل معناه : افعلي كفعلهم ، وقيل المراد به الصلاة في الجماعة كانت مأمورة بأن تصلي في بيت المقدس مع المجاورين فيه ، وإن كانت لا تختلط بهم . السؤال الثالث : لم لم يقل واركعي مع الراكعات ؟ والجواب لأن الاقتداء بالرجال حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء . واعلم أن المفسرين قالوا : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات مع مريم عليها السلام شفاها ، قامت مريم في الصلاة حتى ورمت قدماها وسال الدم والقيح من قدميها .